دور جريدة فتاة الجزيرة في أحداث سنة 1948 بصنعاء

(منشورات مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية)

بقلم: سلطان ناجي

نزوح طلائع الأحرار إلى عدن

بعد عدة أشهر من فشل ثورة 1948، كتب الأستاذ محمد علي لقمان المحامي، رئيس تحرير صحيفة (فتاة الجزيرة) الأسبوعية التي احتضنت قضية الأحرار منذ البداية، سلسلة مقالات(1) (7 حلقـــات) بعنوان (قصة الثورة في اليمن)، ونقتطف هنا وصفه لوصول أول طلائع الأحرار إلى عدن، وهو المطيع دماج، وذلك في يوم 14 أبريل 1944م.

"هذا يوم ستذكره فتاة الجزيرة بخير كثير لأنه مطلع شعور اليمن بضرورة السير في موكب الحضارة الإنسانية. وصل في ذلك اليوم المطيع دماج وكان الوقت حوالي الظهر، إلى بيتي في حافة حسين، ولم أسمع به من قبل ولم أعرفه ولم يأت إلي بتوصية من صديق.

وكان يلبس سترة بيضاء قصيرة وإزاراً يمانياً إلى الركبتين، وعلى رأسه عمامة ويرتدي حذاءً من الجلد كالتي يلبسها البدوي عادة في الصحراء. وعندما وصل كان متحمساً، كثير الألم، بل كانت كلماته عنيفة حزينة.

قال: جئنا إلى فتاة الجزيرة.. نحن شعب مظلوم ونحن شعب ما لنا حق ولا حرية.

وبهرتني صراحة الشكوى!!.. وسيعذرني القارئ إذا علم أنني استمعت إليه دون أن أبدي رأياً.

وهل تستطيع أيها الأخ أن تشرح لنا هذه المظالم؟

بلى! كل يماني على وجه الأرض يستطيع ذلك. ما أسهل شرح الظلم في اليمن. إنني ضيق بالحالة التي وصلنا إليها في اليمن. إن الذي أغراني بالسفر هو ما قرأته في صحيفتكم عن اليمن!!.

وأخذ المطيع دماج يشرح سوء الحال في اليمن.. وسألته إن كان يستطيع أن يكتب هذه الآلام باسمه الصريح. وكان الإيجاب من المطيع دماج.

وظهرت فتاة الجزيرة تحوي مقالاً للمطيع دماج... لم يكن هذا المقال سهلاً للقارئ. إن الذي يعرف اليمن يدرك مدى هذا التصريح في جريدة سيارة باسم صريح لصاحبه أهل وأقارب في اليمن نفسه(2).

وقبل أن نبدأ في رصد تلك المقالات النقدية، التي بدأت تظهر على صفحات (فتاة الجزيرة) بدءاً بمقالات المطيع دماج نفسه، من الجدير أن نشير إلى أن قوافل الأحرار بدأت تتقاطر إلى عدن، ففي 4 يونيو 1944م وصل كل من الأستاذين أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري إلى عدن، وهما اللذان سيصبحان فيما بعد قطبي الحركة هنا. لقد وصل الإثنان إلى الشيخ عثمان، هاربين من تعز، ونزلا في الزاوية العلوية لصاحبها الشيخ عبد الله علي الحكيمي، وهو الذي سيكون له شأن كبير في المهجر، وبخاصة في بريطانيا، بعد أن يؤسس جريدة (السلام) فيما بعد هناك لمناوأت حكم الإمامة. إن الذي ضايق كلا من النعمان والزبيري في تعز هو الخوف المستمر من البطش الفجائي. ولقد هربا لينجوا من ذلك الخوف.

وقد لحق بالنعمان والزبيري آخرون كالشامي والموشكي وأبو راس والقوسي. وهب الشباب العدني واليماني للأخذ بأيديهم ولنصرتهم. ورحب بهم الأدباء وكرمتهم الجمعيات اليمانية والنوادي العربية، على أثر تولي (فتاة الجزيرة) قضيتهم، وعرض شكاويهم علي عرض صفحاتها.. وأخذ الناس يتساءلون عن أسباب هذه الهجرة، فاتصلوا بشباب اليمن الثائر علي التقاليد البالية والأوضاع العتيقة، وكشف لهم هذا التهامس مدى الظلم الصارخ و الأحكام الجائرة والجهل والفساد في اليمن"(3).

ظهرت أولى مقالات المطيع دماج في يوم 30 أبريل 1944م بعنوان " اطلبوا العلم"(4) إلا أنها لم تكن بنفس قوة مقالته الثانية المنشورة بتاريخ 14 مايو 1944م، تحت عنوان : "آمال الإصلاح في اليمن"(5) ففي مقالته الأولى قال دماج أن العلم هو:"الوسيلة العظمى في إنقاذ الشعوب من سوء الملكة وإطلاقها من ربقة الغباوة وظلمة ليل الجهل الدامس وإذا كان كذلك فلا يكفي الأمم أن تريده لحياتها فقط بل يجب أن تطلبه (أطلبوا العلم ولو بالصين) أما الجهل فأن كل الناس يكرهونه ويعتبرون منه ولا يحبوا أن يتعضوا به ولكن لا يكفي للسلامة من أن نكرهه فقط بل يجب أن نميط عنا جلبابه وإن تنور الأفكار بنور العلم النافع وأن ننشر الثقافة والتهذيب في سائر طبقات الأمة لتمتلئ من الفضيلة كل نفس ويتغذى منها كل فكر.

ومعلوم إن ما من أمة إلا وقد أخذت وافراً من العلم وحظاً عظيماً  منه فهذه الممالك الإسلامية مملوءة بالعلم والإيمان عامرة بالعدل والإحسان ماعدا اليمن الخالي من كل سبب ومن أسباب الحياة فلا معارف ولا ترقية الزراعات ولا صناعة ولا صحة ولا تجارة ولا شيء مما فيه النفع العام كسائر الشعوب.

بل استولى على أبنائه الجمود وتداولتهم أيدي الغلبة فنزلوا عن المستوى الثقافي والعلمي والاجتماعي إلى الحضيض من الجهل والعمى والبؤس والشقاء فمنهم المتجشم لمشاق الاغتراب للتكسب والاستجداء ومنهم المقيم في اقتيات الشجر معرضاً للأمراض والفناء، فيا أيها الشباب اليمني انتم أبناء من اعطوا الحكمة وعلموا الناس الإيمان فلماذا ضعفت إرادتكم وخارت عزائمكم عن اللحوق بشرف أسلافكم فإن كنتم لا تقدرون على تعلم العلم النافع في أوطانكم لما هنا من الموانع التي تحول دونكم ودونه فليس من المستحيل الالتحاقي بأوطان أخوانكم العرب في سائر أقطار الدنيا لطلب العلم".

ثم تبدأ مرارة دماج تشتد في مقالته الثانية بعنوان: "آمال الإصلاح في اليمن" فيقول: "لست كاتبا قديرا فأكتب على أسلوب القديرين من الكتاب في الصحف لكني رجل أعبر عما في ضميري بالصراحة الخالية من التنميق والمداهنة لا يهمه متى كتب غير تحاشي الكذب فقط لأن القول منهما بلغ من حسن اللفظ ورونقه وأسلوبه وكان مشوباً بنوع من الكذب والتزلف به لأهل المراتب أو مخادعة الحقائق وقصد إهمالها أو وصف الأحوال حدساً وتخميناً فهو بلا شك ممقوت وقائله كذلك فلأجل ذلك لا يعجبني إلا مطالعه الأقوال الصادقة لأنها نافعة وأبغض الكذب ولا أتأثر من قائله لأنه وضع نفسه وأهانها.

وأنا وإن كنت قادراً على التعبير بما في نفسي لكنه يمنعني مانع خبيث وهو الأحجام عن الإفصاح به لأني ما عرفت التشجيع منذ عرفت الحياة، ولست من ذوي الأدب الراقي لأنه مفقود في وطننا فلو سألت عن الأدب أبناء الشعب اليمني أجابك لفيف منهم أنه الخضوع والطاعة العمياء لأهل السلطة والنسب الشريف كما أن السياسة عندهم هي التصنع والتملق وإظهار الجمود والغباوة والبلادة فالمتصف بهذه الخصال هو السياسي والأمين.

ولا أنكر في قومي اليمنيين نجباء وأدباء غير قليل ولكنه جنى عليهم أدبهم من المكروه أعظم جناية حتى أصبحوا يعدون الأدب سماً قاتلاً أو غازاً خانقاً يخافون منه على أنفسهم وهم بالحقيقة إنما يحملون الفضلة فأنت لأن لو وصلت إلى اليمن لهرب أبناؤه خجلاً من أن يروك فتقف على حالهم ومن جهة أخرى ما عليه المدارس والبلاد من التأخر المفجع فهذه مدارس لواء تعز الآن خالية عن تعليم كل علم نافع فلا يدرس فيها غير لفظ القرآن فقط ومن المعلمين من لا يعرف من القرآن إلا نصف جزء ولو وجدت أمة من الناس يساقون مسخرين في الأعمال الخاصة بالحكومة بلا أجرة تحت إشراف الرجال من أعوان الحكومة والجند بأجرة مفروضة على أولئك المسخرين ثم لو وجدت الناس يشكون من سوء المعاملة الصادرة من خدمة الحكومة ما يندي له الجبين حتى لقد عجزت سيوف الإسلام عن إنصافهم لكثرة ما هنالك من القضايا المتعددة والشكايا المؤلفة فلا تفكير ولا نظر ولا اهتمام إلا بجلب الأهالي أموالهم باسم الواجبات والوسائل ولا تخلو أيدي المأمورين منها ولو وجدت أموالاً مسلوبة وسجوناً ملآنة وأناساً مشردين".

وبعد مقال دماج هذا، نشرت "فتاة الجزيرة" خطاباً من النقيب عبد الله بن حسن أبو راس، أحد الفارين أيضا إلى عدن، ومما جاء  فيه: "إن الأمر جلل، وإن الخطب لمدلهم، ففي اليمن العجاب العجاب.. في اليمن شعب يساق إلى الفناء. فالأموال تتدفق كالسيل من جميع أنحاء العالم لدفنها حيث يعلم الله والحكومة وبعض الخواص، والألوف من أبناء اليمن يموتون جوعاً في كل طريق تأكلهم السباع والطير.

صدقوني إن قلت لكم أنه قد كان عدد سكان ناجية جبل حبشي من أعمال لواء تعز قبل عامين 22 ألف، واليوم في هذا العام لا يزيد على 9 آلاف تقريباً.. لقد ذهب هؤلاء ضحية الجوع والأمراض الفاتكة. وأضنكم تقتنعون بهذا مثالاً لسائر كل لواء.

اليمن أيها العزيز في حالة شديدة لم يشهدها التاريخ منذ فجر الاسلام.

أما معارفه فمهدمة، وأما إرسال بعثات علمية إلى الخارج فممنوع. وقد أصبحت الزراعة يأخذ حاصلها باسم الزكاة وأما التجارة فإن الضرائب الجمركية تقضي علي قسم و آخر منها حتى حالت دون نموها"(6).

حرب الكلمات:هجوم وهجوم مضاد:

إلا أنه ما كادت مثل هذه المقالات تظهر حتى انبرى التقربون إلى الحكومة الإمامية يدافعون عنها. وقد افسحت "فتاة الجزيرة" المجال لأنصار الحكم الإمامي في أن يردوا علي نقاد الحكم الإمامي. فقد ظهرت سلسلة مقالات لشخص اسمى نفسه "عبدربه" بعنوان: "تعز اليوم غير تعز بالأمس" (7) أكد فيها في مقاله الأول بأن ولي العهد "أحمد" قد "استطاع بسلامة فطرته أن ينظم قوانين مدنية شعبية علي أحسن أسلوب  وأحدث طراز، كفلت الحقوق وأراحت الناس وخففت كثيرا ً من الغوغاء"(8). وفي مقاله الثاني تكلم عن القضاء فقال: "إن إدارة القضاء في تعز قد حازت القدح الأعلى. فولي العهد يعد بعد والده في إحاطته بالتشريع الإسلامي.. فتراه يستعرض ما دق وجل من الأحكام بنفسه"(9).

أما في مقاله الثالث، المخصص للمعارف، فقد قام بدور الناصح الحريص على تربية النشئ وذلك عندما قال "كما يجب الملاحظة الدقيقة والعناية الكاملة بأن يكون هؤلاء يبعدون عن النظر في كتب الملحدين والزنادقة المبشرين ويحذرون ويراقبون في مجالهم عن مطالعات الروايات المفسدة للأخلاق والصحف المستهجنة".

أما محمد سلام غالب الذبحاني، فقد كان نقده للأحرار واضحاً، وتهافته مع السلطة الإمامية جلياً. ففي رسالة وجهها إلى "الأستاذ الأكبر عزالإسلام محمد لقمان" بعنوان: "يماني يتحدث عن  اليمن واليمانيين"، قال فيما قال: "من حين إلى آخر ونحن نسمع أقاصيص تافهة يتمشدق بها المتمشدقون وخرافات تنبي عن مرض قلوب مروجيها. فهم يصفون بزعمهم الظلم في اليمن إلى غير ذلك من الشقشقة والهذيان.. ليقولوا ما شاء لهم الهوى أن يقولوه حتى يلاقو يومهم الذي فيه يتناقشون ويحاسبون.. إن الشعب اليماني يتمتع بحرية تفوق سائر الحريات في العالم فاليمن لا يخضع لقانون سوى القانون الرباني"(11).

وفي رده على مقال دماج، "آمال الإصلاح في اليمن" الأنف ذكره ذهب يجعل من اليمن المتوكلية وكأنها قبلة العلم والعلماء في العالم ويحمل الشعب مسؤولية التأخر قائلاً:

"اطلعت علي مقال الشيخ دماج وتبين لي أن في خلال سطور الانتقاد نوعاً من الحيف والقسوة فيما كتبه عن المدارس في اليمن. كيف لا ومدارس اليمن ليست مجهولة، والوافدون إليها من كافة أنحاء العالم غير منقطعين، الأمر الذي لا ينكره أحد ولا يحتاج إلى برهان. إنما لو فرضنا أن هناك تأخراً ما فالمسؤولية تقع علي الشعب لا على الحكومة وحدها"(12)

 

ثم انظم إلى مهاجمة دماج شخص من تعز، أسمى نفسه "عبدالله بن عبدالرحمن اليماني". وقد ظهر له مقالان تحت اسم "بيان للناس" و "المطيع دماج تحت المشرحة"(13) ففي المقال الثاني قال:

"نقول لدماج أن العمى الذي رمى الأمة به ليس بموجود إلا في قلبه فقط. ففي عاصمة البلاد صنعاء وفي حوت وفي صعدة وفي ذمار وفي زبيد وفي بيت الفقيه  مدارس عاليات.. وقل أن تظفر بقرية لا يعلم فيها التعليم الابتدائي.

... إني لا أعرف مراد دماج ومن على شاكلته إنه يريد العلم الغربي، فمن معانيه الحرية، ومن معاني الحرية "تبرج النساء واختلاط الجنسين.. ودراسة عملية بين أحضان الفتيات وتحت أقدام الحسان".

وقد تصدى للرد علي عبد الله بن عبد الرحمن هذا "سهيل اليماني"، وأسماه "جورجياس اليماني"، ثم قال(14) "كلام عبد الله عبد الرحمن اليمني ككلام رجلٍ أعوزته الحجة المنطقية فلاذ بفلسفة السفسطائيين يغالطون من يتحدث إليهم.. وأسلوب المغالطة أشد أساليب التدليس والتضليل بلاء في حياة الأمم.. لقد كتب دماج فلم ينكر أنه يماني كريم منا وأنه يحب اليمن كسائر الرجال الأحرار".

وقد ظهرت عدة رسائل أخرى، بعضها تمدح وأخرى تقدح في الحكم الإمامي نشرت جميعاً تحت باب جديد في الصحيفة هو باب  "البريد اليماني"(15) وعندما اشتدت حدة الردود علقت "فتاة الجزيرة" في عددها 233، الصادر في 6 أغسطس 1944 بقولها:

"نرجو من أصدقائنا اليمانيين أن يتجنبوا السباب في الكتابة"(16).

ويبدو أن الردود المناوئة في هذا الباب قد أثارت من جديد ثائرة المطيع دماج؛ ففي الباب نفسه كتب في العدد (232) يرد شخصياً على عبد الله عبد الرحمن  اليمني تحت عنوان "المطيع دماج بين الضحك والبكاء" ومما قاله: "ومسبح بالظلم يعبد ظالما

                  فيعد في النساك والعباد

ومغالطاً يغض لمقتل أمه

                  ويقول فيها أمتي وبلادي

لغة تنم عن السجون كأنما

                نفحت من الأغلال والأصفاد

مسكين هذا السجين الذي أكرهته أغلال ضميره على أن يكتب "البيان للناس" وكلفته أن يموه الحقائق، وأن يقلب الأوضاع المنطقة والدينية رأساً على عقب، وأن ينسى جراح أمته التي تدمي بين سمعه وبصره، بل وأن جرح نفسه البليغ الذي كنا نحسب أنه سيكون مبعث صوت الحق الداوي في ضميره ولكنه أبي إلا أن يخضع للقيود وأن يرتل اللغة المنافقة في محراب السجانين وأن يكون راهباً من رهبان الديانة الدكتاتورية التي ستزول بلا شك من عالم الوجود، وقد ذهب يفتش في مكتبة العلوم القريبة التي يفندها ويثور عليها فانتهى به فكره الناضج وكتابته الحرة إلى أن يتمجد للناس بأنه من أعداء العلم وأنه في طليعة المحاربين له والناقمين عليه.

ينبذ النور من يديه يمشي

          خابط في طريقه العوجاء

ويريد البقاء في الليل كالعريان

                      ينبو عن المكان المضاء

ولا غرو فإن المرء عدو ما جهل وما دام الكاتب لا يفهم من العلم إلا أنه "كلمة معقدة مثل كلمة السياسة يمتد وينقبض ويبيض ويسود "فلا يلام أن أعلن عدوانه لعلم ولكننا نلومه على تفسير العلم بغير معانيه الصحيحة لأنه يقول:

(فمن معانيه الحرية ومن معاني الحرية تبرج النساء وفتح المراقص والحانات إلخ..).

ثم يخترع نتيجة عجيبة ويزعم زعماً آثماً فيقول (هذا مايريده دماج من المطالبة بالعلم) حسب هذا الكاتب الضلال والجهل أن يفهم بأن الحانات والمراقص من معاني العلم وأن يرتضي بنفسه بهذا التخليط الذي يدل دلالة واضحة على أن البيان للناس لم يكتب مجاناً وأن عقليته لم تنتحر ذلك الانتحار الأدبي إلا بعد أن تناولت عليه الأجر الجزيل.

أيها السجين المسكين لقد حاولت عبثاً أن تدافع عن الجهل وتعتز به وزعم لك خيالك المظلم أنك تستطيع أن تنشر الظلام في أفكار العالمين أجمعين وأن تقنع الأمة العربية بأن اليمن يجب أن تكون كما هي، لأن فيها مدارس عالية، ظننت أن الناس يجهلون اليمن إلى هذا الحد البعيد وأن رجال المؤتمر العربي سيصدقونك بأن الحانات والمراقص من معاني العلم وأنه يجب أن تحمي اليمن من الثقافة وأن تحرم من النور وأن تكتفي بما عندها من المدارس العالية في زبيد وبيت الفقيه وحوت وأكثر القرى اليمنية التي بنيت لها في خيالك مدارس ابتدائية لم توجد بمعناها الصحيح في العاصمة صنعاء.

لقد أضحكتنا كثيراً وأسفتنا كثيراً فأما الضحك فأنك أسمعتنا رنة المقالات الذهبية التي لا تستطيع أن تقيم حقاً ولا أن تدفع باطلاً ولكنها تغري بصوتها الرخيم وتشعر السامع مع الوقت نفسه بأنها لم تخرج من قلب ولا ضمير، ولكنها جاءت من مصنع ذهبي لا يحس فلا يشعر لقد تناقضت فزعمت أولاً أن العلم حانات ومراقص وإنه كلمة معقدة وأنه هو الذي مزق الشرق ثم نبغت بسرعة وتطورت، فزعمت أن في أكثر القرى مدارس ابتدائية وأن في المدن مدارس عالية فأي صورة تريد أن تبرزها عن اليمن فأنك قد لونت اليمن بلونين مختلفين"(17).

وفي مقاليه التاليين كان هجومه مباشراً ضد نظام الحكم الإمامي، ففي المقال الأول قال:"حل الدمار والفناء بأوروبا من جراء هذه الحرب الطاحنة المخيفة ولكن أوروبا ستحيا بعد الحرب وتهب إلى تعمير المدن وترميم المصانع وإقامة الدور وإصلاح الطرق وزراعة الأراضي في زمن قصير، وقد تعود إلى أوروبا نضارتها وروعتها وجمالها.

أما اليمن فقد حل بها الفناء والخراب والشتات وضربت على أهلها الذلة والمسكنة لا من ويلات الحرب وأهوالها بل من ويلات الحكم وغروره على أهالي البلاد.

هلك من سكان المن الجم الغفير من الجوع الذي ألجأهم إلى أكل الشجر وحشرات الأرض ولكن لم يفهم شر الحمى الفتاكة التي التهمت منهم الأخضر واليابس نتيجة لسوء التغذية وعدم النظافة كل ذلك والمدافن مملوءة بالحبوب والخزائن بالدراهم التي سلبت من أيادي هؤلاء الضعفاء وأفواههم وهم في أشد الحاجة إليها ولو أن هذه الضرائب الفادحة التي فرضت على الرعية فرضاً بغير شفقه أو رحمة صرفت في المنافع  العامة كإنشاء المدارس وبناء المستشفيات واستثمار الأرض بالطرق الحديثة واستخراج المعادن ومد خطوط المواصلات لهان الأمر وسهل الخطب لما ينال البلاد من وراء هذا الإصلاح النافع الشامل في الخير العميم لما تقدمه الحكومة من الخدمات الجليلة للشعب كما هو شأن الحكومات العادلة التي تأخذ من الشعب وترد إليه ما تأخذ عن طريق الموظفين والعمال في مصالح الدولة وأعمالها ويندر أن توجد أسرة من أسر الشعب ليس لها فرد أو أفراد في وظائف الدولة ومصالحها بمرتبات مرضية كافية تشعر الموظف بالعدل وحسب الإخلاص في العمل ليعم الرخاء فالرعوي يدفع ما يسمونه زكاة أو ضريبة فوق ما يجب عليه"(18).

وفي مقاله الثاني المنشور في العدد (241) بتاريخ 18 أكتوبر 1944م تحت عنوان "اليمانيون في الداخل والخارج" قال دماج: ..."أبناء الشعب اليماني....

الحكومات لا تقوم إلا على أسس من الشورى والعدل لأنهما بابا رحمة ومفتاحا بركة فمتى كانت الحكومة شوروية آل أمر ألأمة إلى الفوز والنجاح أما الحاكم الفردي فإنه آية الخسف في الأمة وقائدها إلى التهلكة.

ولذلك فقس بين الشعوب التي تحكمها البرلمانات والمجالس التشريعية وبين الشعوب التي تحكمها الشخصيات الفردية تجد البون الشاسع والفرق الواسع أنظر إلى حكومتي مصر والعراق مع هذه الأيام العصيبة والحالة الرهيبة تجدها أوسع تقدماً وأوفر راحة وأحسن حالاً وأنعم بالاً من اليمن البعيدة عن الأخطار بمراحل عديدة ولو نظرنا إلى الحجاز الحديثة العهد بالإصلاح والتقدم العمراني لوجدنا اليمن الخصيبة الزراعية دونها بالراحة والاطمئنان والسعي وراء ما يعود عليها بالنفع والخير لأن الشعب اليماني أصبح في نظر حكومته كالبهائم المعدة للحرث والركوب ولذلك تجد الحكومة قد جعلت كل شيء على الرعوي فإصلاح الطرقات والطحن وإصلاح الطعام للجند في أغلب الجهات ومصالح الحكومة والموظفين وحرث ما تريد الحكومة حرثه لنفسها من البلاد وحراسة البلاد على ذلك الرعوي المسكين الذي كأنه شيء ووجب عليه كل شيء مجاناً علاوة على أخذ ماله باسم الزكاة وأجر المأمورين".

ثم يصف بتأثر ما وصلت إليه حال بعض النساء اليمنيات في عدن قائلاً: "لقد تركت بعض النساء.... هي التي تركت بعض نساء اليمانيين وبناتهم يتكففن في الأزقة والأسواق بعدن ويطلبن من الرزق ما يسد  الرمق ولو بذل العفاف هذا والحالة مشاهدة في عدن فيا للخزي ويا للفضيحة ليت شعر كيف لذ لأبناء اليمن هذا العيش وكثرة الاحتمال لهذا الضيم والهوان والهتك والامتهان فأنا لله وإنا إليه راجعون".

ومن بعد المقال المذكور أعلاه لم نعد نقرأ في (بريد اليمن) أية مقالات لأنصار الحكم الإمامي، بل أننا نجد مقالات انتقادية معارضة تفصيلية عن الحكم الإمامي. فها هو "فتى الفليحي" يكتب مقالاً بعنوان: "هل في اليمن مدارس حديثة للتعليم" أكد في بدايته أن التعليم الصحيح مفقود في اليمن، والمدارس الموجودة ضئيلة، وأن ما تسمى "بوزارة المعارف" تحت سيف الاسلام عبدالله، وزارة صورية وأن "الشبان اليمانيين العائدين من العراق شردتهم ومزقتهم كل ممزق مما اضطر بعضهم إلى أن يغادروا اليمن إلى مصر كالأستاذ أحمد حورش والأستاذ محي الدين العنسي".

ثم راح الفليحي يتكلم عن حالة المدراس في صنعاء فقال:

"في صنعاء أربع مدارس هن مدرسة الأيتام والإصلاح والإرشاد والمدرسة الثانوية.

أما الأولى فهي كما يظهر من اسمها خاصة للأيتام. ويقول جلالة الإمام أنه ينفق عليها من جيبه الخاص والدروس المقررة لهذه المدرسة دروسا (هكذا) عقيمة، وأهم شيء فيها هو القرآن الكريم والخط العربي. وأما مدرستا الإصلاح والإرشاد فبرنامج دروسهما كمدرسة الأيتام.

أما المدرسة الثانوية فهي التي طالما سعت البعثة اليمنية العراقية لإنشائها. وقد أسست أخيراً واختير لها تلاميذ من المدارس الثلاث. وكان القائم بالأعمال فيها أولا المهتم بشؤونها هو الأستاذ الأديب أحمد حسن الحورش.

وقد كان يريد أن يجعل هذه المدرسة كاسمها وأن تكون دروسها عالية تطابق المنهج الحديث. وفعلاً دبر الخطة مع زملائه المدرسين وشرعوا في التدريس على الأصول الحديثة، ولم يتركوا جهداً في بث الروح القومية في التلاميذ وتحبيب الثقافة والعلم والمطالعة إلى قلوبهم.

وداموا كذلك عاماً وبضعة أشهر تقدمت فيها المدرسة تقدماً كبيراً مما شغل فكر وزارة المعارف وأقلق راحتها، فانتبهت للقضية وراقبت الدروس التي تلقى في هذه المدرسة، ومنعت المحاضرات التي ابتدعها الحورش، وأغلقت فرقة المطالعة. الحاصل أنه لم تأت بضعة أشهر إلا والمدرسة الثانوية عبارة عن كتاب حقير ولم يبق لها إلا اسمها.

مسكين المعلم اليمني. يفرض عليه أن يبقى في المدرسة من الشروق إلى الظهر، ومن بعد الظهر إلى آخر اليوم. إن هذا المعاش يتفاوت بين أربعة ريالات وعشرين ريالاً لأعظم معلم. ولما وصلت البعثة اليمنية العراقية أحدثت ضجة هائلة بين رجال المعارف. وقال قائلهم لقد قرر لكل معلم منهم خسمة وعشرين ريالاً"(19).

أما عقيل عثمان عقيل، فقد راح يقارن بين حالة لواء تعز أيام الاحتلال العثماني، وأيام الحكم المتوكلي، ليثبت بالأرقام أن الحالة أصبحت أسوأ بكثير أيام حكم الإمام . فمثلاً لواء إب الذي كان يطلق عليه اسم (برنجي قضاء) وكان أيام الأتراك عبارة عن قضاء من أقضية لواء تعز، وكان عليه من الأموال للحكومة العثمانية 80000 ريال، 50000 منها تسلم والباقي تتأخر. أما في العصر المتوكلي فقد بلغت زكاة هذا القضاء 1,5 مليون، على أن هذه الملايين لم يحصلها الرعية من زراعتهم ولكنها محققة الوجود في دفاتر الحكومة".

 

هوامش

1-   محمد علي لقمان. "قصة الثورة في اليمن". فتاة الجزيرة، الأعداد 431-437 بتاريخ 25يوليو، 1، 15، 22، 29 أغسطس، 5، 13 سبتمبر 1948م على التوالي.

2-   محمد علي لقمان. "قصة الثورة في اليمن" فتاة الجزيرة" العدد431، 1 يوليو،1948م،  ص10.

3-   محمد علي لقمان، "قصة الثورة في اليمن(2)"، فتاة الجزيرة، العدد 432، 1 أغسطس 1948م، ص2.

4-   المطيع دماج، "اطلبوا العلم"، فتاة الجزيرة، العدد 219، 30 إبريل 1944م، ص5.

5-   المطيع دماج، "آمال الإصلاح في اليمن"، فتاة الجزيرة، العدد 221، 14 مايو 1944، ص4.

6-   عبدالله أبو راس، "خطاب"، فتاة الجزيرة، العدد 227، 25يونيو 1944، ص4.

7-   عبد ربه، "الشؤون الإدارية في تعز"، فتاة الجزيرة، الأعداد 220- 223، بتاريخ 7، 14، 28 مايو 1944 علي التوالي.

8-   عبد ربه، "الشؤون الإدارية في تعز"، فتاة الجزيرة، العدد 220، 7مايو 1944،ص2-3.

9-   عبد ربه، "كلمة عن القضاء في تعز"، فتاة الجزيرة، العدد 221، 14مايو 1944، ص3-4.

10-  عبد ربه، "تعز اليوم غير تعز بالأمس"، فتاة الجزيرة، العدد 223، 28 مايو 1944.

11-  محمد سلام غالب الذبحاني، "يماني يتحدث عن اليمن واليمانيين"، العدد 225، 11يونيو 1944، ص9.

12-  محمد سلام الذبحاني، "رد على الشيخ دماج"، فتاة الجزيرة، العدد 223، 28 يناير 1944، ص9-10.

13-  عبدالله بن عبدالرحمن اليماني، "بيان للناس"، فتاة الجزيرة، العدد 231، 23 يوليو 1944.

14-  سهيل اليماني، "جور جياس اليماني"، فتاة الجزيرة، العدد 232، 30 يوليو 1944، ص8-9.

15-  انظر الأعداد 233، 234، 240، بتاريخ 6، 13 أغسطس، 1 أكتوبر 1944 على التوالي.

16-  خادم حقيقة، " ردود في رد"، فتاة الجزيرة، العدد 233، 6 أغسطس 1944، ص4.

17-  المطيع دماج اليمني، "المطيع دماج بين الضحك والبكاء"، العدد 232، 30 يوليو 1944، ص11.

18-  المطيع دماج، "اليماني داخل اليمن وخارجها"، العدد 235، 20 أغسطس 1944.

19-   فتى الفليحي، "هل في اليمن مدارس حديثة للتعليم"، العدد 239، 17 سبتمبر 1944، ص5-6.