حكاية اللَقية...([1])

 

 

تسكع كثيراً في أزقة المدينة وأمام دار "الأمير" ينتظر الإفادة على "مراجعته" التي يطلب فيها "قدحين" من الذرة قرضة...

نفد ما بحوزته من الزاد... وبلاده بعيدة، وهو لا يعرف أحداً سوى صداقات عابرة كونها مع جموع مثله "مراجعة" فقيرة نطلب القرضة من الأمير...

نصحه أحدهم بأن يعود إلى "بلاده" فلا فائدة ترجى... وإذا قدر أو حدث وحول له الأمير بالقدحين الذرة قرضة فستكون إلى مدينة بعيدة أخرى... فهم ذلك جيداً... فكم أناس استهلكوا "القرضة" في الطريق... يأكلونها قبل أن يأكلها ذووهم... لكنها الحاجة الملحة المميتة..!

* * *

سافر مع القوافل الهزيلة... يستأنس برنين أجراس جمالها من الوحشة والخوف في الطرقات الموحشة المليئة "بالطهوش" والحيوانات الكاسرة... عائداً إلى "بلاده"..

* * *

كانت "السياني" شبه مدينة صغيرة بنظر القرويين الذين يهبطون إليها من الجبال المحيطة، بسمنهم "اليسير" المبخرة "أوعيته" بدخان الأعواد ذات الرائحة الجميلة، يحملونه على  أكتافهم وقد كانوا يقترون على أنفسهم في استخدامه ليبيعوه إلى تجار محتكرين ينقلونه إلى "بندر عدن" ويشترون بثمنه ما يحتاجونه من "حوانيت" هذه القرية التي تشبه المدينة ليعودا إلى ذويهم بشيء مفرح لا يعتادونه إلا في الأعياد.

وكانت "السياني" تعج بالقوافل... فقد أصبحت محطة للتجارة كونها تقبع بموقعها في أسفل "النقيل" و"المرحل"([2]) المعبدة درجاته بالحجارة السوداء... والملتوية طريقه الهابطة والصاعدة من وإلى قمة الجبل الكبير...

وتمتاز "السياني" برحابة "سماسرها" الواسعة التي تأوي "الجمل بما حمل" وتقدم الزاد والقهوة وخدمات أخرى، تزيل أتعاب السفر الطويل من "عدن" إلى "صنعاء" والعكس...

* * *

خرج من "السمسرة" لقضاء "الحاجة" وراء سورها وهو يفكر كيف يشرح لزوجته وأولاده مبررات وظروف فشله في مهمته...!

ارتطمت رجله بشيء صلب أحدث ألماً شديداً لأصبع قدمه الوسطى الطويلة المدماة دائماً من ارتطامها المستمر بالحجارة... يبول عليها دائماً فتلهبه ملوحة البول... لكنه العلاج الوحيد المتداول والمعتاد في مثل تلك الحالة، "للكدف"([3]).

انتابه فجأة إحساس بأن هذا الشيء الصلب لم يكن حجراً... تحسسه بيده... شعر بالبرودة تسرى في أنامله... أتاح له ضوء القمر المتقطع بفعل السحب السابحة في الفضاء أن يرى هذا الشيء الصلب... عرته دهشة وانبهار وبدأت يداه تتفقدان معالمه... مربع الحجم... أملس الجوانب والأركان..

شد انتباهه في ذلك الشيء رسم لقط ينط من داخل دائرة، بعينه اللامعة البراقة، وشاربه الواقف بشعيراته المدببة ينظر إليه..!! مسح بيديه الأتربة وبعض المخلفات القذرة العالقة بذلك الشيء الصلد... وجلس يفكر وقد صرعته فجأة موجة أحلام أصبحت قريبة المنال والتحقق...

إنه بلا شك كنز في صندوق متوسط الحجم محكم الإقفال... ليس له أقفال ظاهرة ولا منافذ واضحة كأنه هرم من أهرام الفراعنة في الجيزة...

ربما سقط من على ظهر أحد جمال القوافل الداخلة إلى أو الخارجة من "السمسرة الكبيرة"، القادمة من "عدن إلى "صنعاء" أو العكس...

استقر داخل "السمسرة" مع جموع المسافرين وجماله المناخة التي تتناول غذاءها من أيدي أصحابها... أما الدواب الأخرى فهي تتناول "حسيكها" من داخل "المخال" الكاتمة على أنفاسها...

كان قد حشر ذلك الشيء الكنز في كيس نومه المغبر المتسخ ووضعه تحت كوعه الأيسر... لم تمنعه أجراس الجمال المعلقة على أعناقها والتي ترن بأصواتها المزعجة عن التفكير والنوم... كان وجلاً خائفاً أن يكشف أمره وسره أحد من نزلاء "السمسرة"...

واحتار لأول مرة في حياته... فقد فكر وأزمع على الرحيل ليلاً، رغم المخاطر في "النقيل" و"المرحل" المعبدة درجاته بالحجارة السوداء... واحتمال مواجهة "الطاهش"([4]) المفترس... لكنه قرر البقاء مع القوافل وأصحابها، فهي ستسافر فجر اليوم التالي أو يسافر قبلها...

لم ينم... وقد حاول... لم يكن شخير الجمال والدواب وأصحابها مانعاً له من النوم... فهو معتاد على ذلك... كان يحلم في هذا الشيء الكنز الذي سيحل له المشاكل... عليه زكاة "بيت المال- الإمام"، وأجر العساكر "النافذة" عليه، وأهم من ذلك قوت أسرته الكبيرة..

قبل بزوغ الفجر تفقد ذلك الشيء الكنز في حين تفقد المسافرون أحمال جمالهم ودوابهم... وعلا رنين أجراس الجمال النحاسية المتدلية من أعناقها على أصوات الديكة والكلاب المبشرة بالفجر...

* * *

صعد درجات "المرحل" المعبد بالحجارة السوداء بخطوات سريعة سبق بها القوافل... كان قد أقنع نفسه بأن يسرع في خطاه ما دام السفر نهاراً... فلا خوف عليه من سباع الليل، لكنه مع ذلك كان يخاف سباع النهار من عساكر الإمام والفضوليين والعسس. لم يخف في يوم من الأيام من العساكر والعسس كما خاف تلك الليلة وهذا النهار... لأنه يحمل فوق ظهره هذا الشيء الثقيل: الكنز!

توقف في منتصف "المرحل" تحت ظلال "طولقة"([5]) عملاقة أحنت بحنان أحد جذوعها على "سبيل" الماء، المقضض ذي السقاية المقفلة بإحكام المنجرة إليه من قمة الجبل، وعلى قبة السبيل المزركشة... شرب حتى ارتوى ثم تلفت حوله فلم يجد ما يزعجه... فغسل وجهه وبلل رأسه وعنقه.

شعر بالانتعاش... وحاول أن يستريح قليلاً وهو يدندن بأغنية شعبية: "يا طولقة ياللي ظلالك برود.."

* * *

لكنه لم يكمل غناءه، فقد فزع لأصوات نواقيس الجمال الهابطة والصاعدة... وأصوات الحداة بغنائهم الشجي:

"يا يلتني جمال بعد (سودي)([6])...  وسايرك يا نادش الجعودي"

طرب للغناء الذي ردد صداه جوانب و"ضياح" الجبال الشامخة... لكنه كب وجلاً يمرق درجات "المرحل" المعبد بالحجارة السوداء..

* * *

كان الوقت ظهراً... وشهر "سهيل اليماني" المبارك يغدق بكرمه من الأمطار الغزيرة المعتادة. في هذا الوقت احتمى داخل "صبل"([7]) له عقود من الحجارة الصغيرة، ومسقوف بالحجارة المستطيلة الكبيرة. كان المطر قد بلل رداءه المتسخ... استقر به المقام في زاوية من ذلك "الصبل" اختارها لكونها بعيدة عن المسافرين المزملين بالأردية، بعضهم يدخن "المشارع"([8]) الفخارية المزركشة... وانزوى بجانب الدواب لقربها من باب "الصبل".

تفقد ذلك الشيء بحرص شديد... وتحمل رائحة روث وأنفاس البهائم وركضها ورفسها له في بعض الأحيان...

وآذته نطف من الماء تتساقط على زاويته من السقف الحجري ما لبثت أن أصبحت أكثر من مجرد نطف... ومع ذلك تحملها برحابة صدر وترحم على الملكة "أروى" ولعن من خلفها من الحكام..!

-         ماذا تفعل عندك يا "خبير"؟

فاجأه الصوت الصائح فتلعثم لكنه تمالك نفسه:

-         أستكن من المطر..

-         عند البهائم وأخراجها..!؟

تأمل الرجل... مظهره وشكله لا يدلان على أنه من عساكر الإمام وعسسه... بلع ريقه وأجابه برباطة جأش:

-         وصلت متأخراً... وكما ترى لقد صرت مبتلاً... وأنتم تدخنون "الخويسي"([9])..!!

* * *

كان أول الخارجين من باب "الصبل" إثر توقف هطول المطر... السيول تهدّ من كل مرتفع. والسحب بدأت تلملم بقاياها لتسافر... والطيور تنفض ريشها من البلل... والهواء نقي مشبع بروائح رطبة تدغدغ الأنف. ودرجات المرحل المعبد بالحجارة السوداء قد غسلتها الأمطار من روث البهائم وصقلتها فأصبحت حجارتها لامعة...

منعه المطر من وصول المدينة قبل حلول الظلام... فأبوابها قد أصبحت موصدة بحراسها القساة..

تكور بعيداً عن "الباب الكبير" لكنه حرص أن يكون ملاصقاً لحجارة سور المدينة العملاق عسى أن يشعر بالأمان بمحاذاته..!

* * *

رغم تجلده وحرصه على ألا ينام، وتحريكه لجفونه حركات قلقة، فقد غلبه الإرهاق والجوع فنعس هامداً كطير ذبيح لا حراك فيه...

شعر بلكزة عنيفة على رأسه فانتفض كأرنب وجل صائحاً:

-         ليس معي شيء..

-         ماذا تفعل هنا؟

-         ... وصلت والباب مغلق فنمت..

-         من أين أنت؟

-         من بلاد "يريم"...

-         "خباني"؟

-         ...

-         هل معك "حبة سوداء" وكمون..؟!

-         لا..!

-         "......."

-         سامحك الله... عفا الله عنك..

-         وماذا معك إذاً..؟

-         قدح من الذرة... قرضة من مولانا الأمير حفظه الله.

-         أهذا قدح من الذرة؟

-         أكلت معظمه في الطريق..

* * *

لم يدخل المدينة فقد عاد أدراجه إلى الطريق المؤدية إلى بلاده رغم ما يعانيه من الجوع والإجهاد. تحمل الجوع والتعب وهو مكب على الطريق يكاد يلتهمها التهاماً.

تحاشى بقدر الإمكان وبقدر معرفته للطرق القصيرة السير في الطريق المأهولة... طريق القوافل المعبدة بالحجارة السوداء... وتحمل أنواعاً من المشاق والعوائق التي أدمت قدميه الحافيتين من أثر الأشواك والصخور الصغيرة المدببة.

لكن ذلك كان أهون عليه من أن يلتقي بأحد عساكر "الإمام" أو عسسه... وكم راودته فكرة التخلي عن هذا الشيء الكنز... يرمي به في قارعه الطريق ليتخلص من متاعبه وخوفه.. لكنه تذكر أنه سيعود إلى زوجته وأولاده بدون طعام "القرضة" و"بخفي حنين" وقد تحمل الكثير من المشاق والمتاعب... فقرر الوصول بهذا الشيء الكنز ولو كلفه ذلك حياته...

* * *

استقبلته كلاب القرية بنباحها الشرس وهو يدلج في طريق "مخلاف" القرية بين الحقول يزاحم المواشي برنين أجراسها النحاسية على الجسر الحجري، جسر "السائلة"... مدرب السيل والغيل...

تحاشى بقدر الإمكان التحيات المرحبة والسلامات الودودة... فعذره البعض لمعرفتهم بظروفه ولعدم حمله ما كان متوقعاً أن يحضره معه من ذرة "القرضة"... كانت الزوجة قد عادت بحملها من الحطب من الشعاب وكذلك ابنته الكبرى "بحزمة" من الحشائش غذاء للبقرة... وبعض الأولاد يطعم البقرة والثور "بغرزها" المعتادة التقليدية أمام باب "الصبل"... وبعض الدجاجات تعبث بروث البهائم تبحث عن صيد لها ولفراخها... حشرات أو حبات ربما تكون قد سقطت سهواً من الزوجة وهي تنقي الحبوب من الرمل والحصى...

* * *

رغم كل شيء، كانت الحياة تسير كما هي برتابة مملة رغم غيابه... استقبله سكان "الصبل" الزوجة والأولاد وثوره الحبيب والبقرة والدجاج بود ارتاح له نفسياً وغسل كل أحزانه...

* * *

خابت آمال وأحلام الزوجة لفشله في الحصول على "القرضة" من الأمير لكنها انبهرت بما هو أهم من ذلك، بما حمله معه وطرحه أمامها مزهواً، ذلك الشيء الكنز الذي يبهر الأبصار وينعش الأفئدة وجميع الحواس..!

وتجمع الأبناء حوله يتطلعون مع أمهم بشغف إلى ذلك الشيء الكنز الذي خلب القلوب بعد أن قامت الأم الحكيمة بإغلاق المنفذ الوحيد وهو باب "الصبل" خوفاً من الفضوليين والحسدة وما أكثرهم في القرية..!

-         عود في عين الحسود...

ارتاح لإيمانها بالتراث الذي كان كافراً به طوال حياته... وردّد أبياتاً من الشعر يحفظها عن ظهر قلب لفقيه القرية:

 أقارب كالعقارب في أذاها             فلا تركن إلى عمٍ وخالِ

 فكم عم أتاك الهم منه                  وكم خال عن الخيرات خالِ

* * *

تحلقوا جميعاً حول فطيرة يابسة وقهوة مرّة يبلعون بها... وذلك الشيء الكنز أمامهم يلمع فتلمع عيونهم... وتداعبهم أحلام المستقبل تكاد تتحقق مع بزوغ الفجر... يقضون ديونهم ويسددون قرضات بيت المال-الإمام والزكاة و"صبرة الحسن"([10]) وأجور العساكر المتراكمة، المطالب بها "عدل" و"أمين" القرية...

وفي أحلامهم بعد ذلك إصلاح "الصبل" الهادم واستصلاح ما صلب من الأرض وترميم جدرانها المدرجة وقلع جذور النباتات الضارة. أحلام كثيرة سيحققونها... ثياب جديدة وسراج جديد وفراش صوف أيضاً... لعنوا الإمام وأمراءه وعساكره و"صبرته" وعماله "ومثمريه" وكشافيه ومخمنيه وحكامه القضاة..

لعنوا وكلاء "الشريعة" والعدول "والمشايخ" والأمناء... في ليلة انتشوا فيها حتى الثمالة..

* * *

الموقف أصبح صعباً وهو يحاول فتح ذلك الشيء الكنز... فلم يعرف طريقاً لفتحه، بعد أن أدركه العجز... وحاولت الزوجة والأولاد أيضاً ففشلوا... وفكروا جميعاً بالاستعانة بالأقارب... لكنهم أقارب كالعقارب... مؤذية لا يركن إليها... واتته فكرة إثر ذلك الإحباط... فاندفع نحو فأس غليظة وانهال على ذلك الشيء الكنز بضربات متوحشة يدكه دكاً.

تبعثر ذلك الشيء الكنز... رماداً... فتات فحم أسود... على وجوههم ووجوه الأطفال وأجسامهم نصف العارية... نظر الأطفال بعضهم إلى بعض ضاحكين لهذه اللعبة الجديدة التي لم يمارسوها من قبل مع أقرانهم في ساحة القرية...

وضحك هو وضحكت الأم أيضاً من أعماق قلبيهما..! لكنه كان ضحكاً كالبكاء..


[1] اللقية= الكنز الذي يعثر عليه فجأة في "الخرائب" القديمة وتحاك حوله عدة أساطير وحكايات.

[2] النقيل= هو الطريق الصاعد الوعر إلى الجبل، والمرحل هو الجزء المعبد منه بالحجارة.

[3] الكدف= الجرح في الأصبع الطويلة للقدم.

[4] الطاهش= حيوان مفترس شائع في اليمن.

[5] طولقة= شجرة ضخمة طويلة العمر يستظل الناس بها.

[6] سودي= نوع من الجمال.

[7] صبل= كوخ.

[8] المشارع= جمع "مشرعة"، وهي نوع من الغليون الطويل.

[9] الخويسي= الغليون الطويل.. وهو ذو رائحة كريهة.

[10] صبرة الحسن= الصبرة هي جمع ثمار القرية في مكان واحد، والحسن هو سيف الإسلام ابن الإمام يحيى.

 


 Go Back to Short Stories Page