قصة مهاجر حقيقي

 


عندما سافر بحراً من "مرسيليا" كان يفكر في نوعية الهدية التي ستعجب (الشيخ)... ظل هذا هاجسه الدائم طوال رحلته الطويلة والمرهقة التي قضاها يتنقل بحراً وبراً وجواً من مرفأ إلى آخر ومن مطار إلى مطار حتى وصل إلى (أسمره) على متن طائرة (داكوتا)، ثم براً إلى (مصوّع) التي أبحر منها إلى (المخا) بمركب شراعي عتيق وقبطان أكثر شيخوخة. كان قد اشترى من إحدى محطات رحلته الطويلة بندقية (بمنظار مقرب)، آخر صيحة أنتجتها مصانع "بلجيكا"، وقنينة نبيذ كبير الحجم محفوظة بشبكة من الخوص الملفوف عليها بدقة وبراعة... كان يعرف أن الشيخ مغرم كثيراً بالسلاح وأنه سيسعد بحصوله على طراز جديد... ويعرف أيضاً كم هو مغرم بالخمرة التي لا تفارقه أبداً..!

* * *

كان ارتياحه كبيراً عندما وصل قريته ليلاً فوق حمار متهالك بينما كان حمار آخر يتبعهما مثقلاً بأغراض متنوعة كانت حصيلة عشر سنوات قضاها مغترباً (وراء البحار)... أما هدايا الشيخ فقد كانت معه تلازمه دائماً، فعلى ذراعه الأيسر تعلقت بخفة البندقية (أبو ناظور) بينما احتضنت اليد الأخرى القنينة...

دخل باب منزله المتهدم واستقرب بين أحضان ودموع والدته وزوجته وابنه الوحيد الذي عاش له من بين أبناء عدة ماتوا بالطاعون والحصبة والجدري.

* * *

كان مرهقاً تلك الليلة وكان بحاجة للنوم... عذرته زوجته قبل والدته إشفاقاً عليه... لكنه رغم ذلك لم ينم... كانت لا تزال هدايا الشيخ في هاجسه... ترى كيف سيقابل الشيخ..؟! وهل الهدايا لائقة..؟! وهل ستعجب الشيخ أم لا..؟! وتحسس بحنو البندقية (أبو ناظور) الرابضة بجواره وأغمض عينيه.

كانت البراغيث و(البق) قد ايقظته باكراً قبل أن توقظه زوجته... وانطلق في طريقه الصاد والهابط بين أحضان المدرجات الزراعية والحقول الخضراء بمحاصيلها المتنوعة التي تتسلق الجبال الشامخة... كان يتوقف بين الحين والآخر ليستنشق ملء رئتيه هواء نقياً بجانب الينابيع والعيون المائية الصافية... يُسلم على الناس النازلين والصاعدين (المرحل)([1]) المعبد بالحجارة متأملاً المدرجات الخضراء والسهول والوديان... تمتم في نفسه:

-        إنها ملك للشيخ... كلها... كل هذه القرى... كل هؤلاء (الرعية) المزارعين وأنا منهم أجراء للشيخ، إن لم نكن عبيداً له..!!

* * *

وصل إلى بوابة (دار الزهور)، بيت الشيخ، ببوابته العملاقة المرصع خشبها بمسامير نحاسية وبصفائح حديدية تزيد من صلابته... كان أمام البوابة وعلى جوانبها حرس بلباسهم التقليدي تتدلى على أكتافهم بنادق (فرنصاوي) التي اشتهرت في حروب (نابليون) القديمة... تقدم بحزم نحو البوابة ولم يلتفت فقفز أحدهم نحوه وسأله:

-          ماذا تريد...؟

-          المقيل في (ديوان)الشيخ...

-          ومن أنت حتى تريد المقيل في ديوان الشيخ..؟!

-          مهاجر... أحمل هدايا للشيخ... من وراء البحار..

تردد الحراس وهم يقتربون منه ويتفحصون بفضول تلك البندقية (أبو ناظور)... وتمادوا في فحصها فضرب على أيديهم وأبعدها عنهم ناهراً إياهم بعد أن هدد بإخبار الشيخ عن هذا التطاول.

* * *

كانت ساحة الدار واسعة، يتوسطها المبنى الرئيسي المكون من أربعة طوابق حجرية... الطابق الأسفل يكاد يكون بلا نوافذ أما الطابق الثاني فبنوافذ صغيرة تقل حجماً عن نوافذ الطابق الثالث ذات (القمريات) الزجاجية الملونة... أما الدور الرابع فنوافذه أوسع (وقمرياته) أكبر وأكثر جمالاً..

لا توجد في ساحة (دار الزهور)، عكس ما كان يتوقع، أية زهور من أي نوع..! ولا حتى أي نوع من الخضرة..! فلم تكن ساحة الدار التي طالما رسم لها صورة في مخيلته سوى قطعة جرداء ممتلئة بروث البقر والبغال التي تقطن الدور الأسفل من الدار، وعشرات من الخرفان التي يسوقها المزارعون كل يوم... وبعض من الحطب الشوكي اليابس الملقى هنا وهناك...

أتجه نحو (ديوان) الشيخ الطويل الذي تشرف نوافذه العديدة على السهول والوديان والمدرجات الزراعية الخضراء التي يمتلك الشيخ معظمها، بقراها وحيواناتها... وبناسها أيضاً..!

* * *

كان يتوقع أن مقدمة سيسر جموع الحاضرين... أو على الأقل سيبدون قليلاً من الاهتمام بعودته من (وراء البحار)... لكن شيئاً من ذلك لم يحدث..!! ربما كانوا قد نسوه... حدث نفسه بخيبة أمل... نظر الشيخ إليه ملياً ولم يصدق بأن هذا الواقف أمامه هو أحد رعاياه فقد كان نظيف الملبس... جميل الهيئة... حليق الذقن مُحمر الوجه قوي البنية... تسكن تحت إبطه الأيسر بندقية عجيبة وممسكاً بيده اليمنى شيئاً ملفوفاً بقماش لم يكن صعباً عليه أن يعرف ما بداخله..!

كان الشيخ لا يزال ينظر إلى القادم دون أن يأبه لنظرات الحاضرين المتسائلة... وأشار إليه بأن يتقدم. لم يفسح الشيخ له مكاناً بجانبه كما كان يتوقع أو حتى أن يأمر له بمكان في أي جانب، بل جعله مضطراً للركوع على ركبتيه وتقبيل قدميه الشيخ... ثم سلمه الهدايا بصمت..

* * *

شعر بالإهانة وتألم كثيراً لتلك المعاملة والاستقبال وهو الذي ظل منشغلاً طوال رحلته بهدايا الشيخ..! تناول الشيخ البندقية وفحصها بإعجاب شديد ثم ناولها للحاضرين ليتداولوها قائلاً بزهو:

-          لم يخلق مثلها في البلاد..

هزَّ الجميع رؤوسهم مؤيدين... وتزايدت عبارات الإعجاب ففرح القادم من (وراء البحار) لذلك... ونادى الشيخ خادمه الخاص وأعطاه القنينة الملفوفة ليودعها مكان أنسه الليلي... انقشعت الغمة تماماً عن المهاجر بعد أن أمر الشيخ كبار القوم بإفساح مكاناً له بينهم... ورمى له بحزمة من (قاته) الفاخر... تناول غصوناً من القات وانزوى في مكانه صامتاً... وساد الصمت في المقيل أكثر من المعتاد فلم يرق ذلك للشيخ فبادر بسؤال القادم من (وراء البحار) عن الرحلة ومشاقها وكيف وصل إلى (البلاد)..؟

* * *

بدأ يقص رحلته منذ مغادرته لميناء "مرسيليا" في بلاد (الفرنجة)... وكيف تنقل من ميناء إلى آخر ومن بلدة إلى أخرى ومن بحر إلى بحر..!! لم يعر ذلك اهتمام الشيخ أو أي من حضوره... كان (المهاجر) يواصل حكايته وقد بدأ يتذوق (القات)... قاطعه الشيخ بملل:

-          وكيف وصلت إلى (أسمره)..؟!

-          جواً... فوق السحاب... وتارة أخرى تحتها... على الطائرة...

دوت في أرجاء (الديوان) الفسيح همهمات ارتفعت إلى صيحات الحاضرين من مشايخ مجاورين وأعيان (وعدول) قرى بل ورعايا أيضاً..

رمى الشيخ المهاجر بنظرة حادة وسأله:

-          هل أنت متأكد من ذلك يا رجل..؟!

-          نعم يا سيدي الشيخ... فهي طائرة من الحديد تحلق في السماء وتنقل المسافرين من بلد إلى آخر...

-          حديد..؟! يطير في السماء وعليه مسافرون..؟!

-          نعم يا سيدي...

-          مثل بساط الريح..؟!

وهنا صمت المهاجر... ولم يدري ماذا عليه أن يقول... بينما كان الشيخ يعتقد أنه قد أحرج أمام المشايخ والأعيان المتواجدين وأنه قد أهين أمامهم... وفي مقيله..!

ساد الوجوم المقيل ولزم الجميع الصمت حتى الشيخ نفسه... كان لابد للشيخ أن يحسم الأمر بسرعة برغم من الهدايا الثمينة التي جاء بها هذا المهاجر... وكسر الشيخ الصمت بصوته الغاضب لحراسة..

-          خذوه... وارموه في السجن... وكبلوه بالحديد

أقتيد بعد أن كبلوه بقيود حديدية حول قدميه إلى غرفة مظلمة ذات رائحة كريهة... ممتلئة بكل أنواع القاذورات وبعض سجناء ذوي هياكل عظمية...

* * *

في عام لاحق، أسماه المزارعون عام (القوارح)، أغارت طائرات بريطانية على مناطق من (البلاد)... كانت الطائرات تُحلق في سماء القرى وتطلق قنابل مدوية أفزعت الناس... وتراكض الأطفال في أزقة القرى هلعاً وهاجت الأبقار والثيران في الحقول وفزع الشيخ لها قبل غيره... لقد أقنعت الطائرات الشيخ بأن هناك حديداً يطير في السماء وبأن ما قاله ذلك المهاجر كان صحيحاً..

* * *

لم يعاتب الشيخ نفسه لحبس ذلك المهاجر القادم من (وراء البحار) الذي أهداه البندقية (أبو ناظور) التي لم يخلق مثلها في البلاد... لكنه وبعد حادثة (الطائرات) سأل (معاونه) أن يدعو ذلك المهاجر العائد من وراء البحار إلى المقيل عله يفصح عن مكنونات ذلك الوحش الحديدي الطائر..!

كان المقيل قد اكتظ تماماً، فقد كانوا جميعاً متلهفين لسماع ما سيخبرهم به ذلك المهاجر... وكان الشيخ قد جهز حزمة من (قاته) الخاص للمهاجر وأفسح له مكاناً بجانبه ينتظر وصوله... وسرعان ما عاد معاون الشيخ ودنى منه وهمس في أذنه..

-          لقد هاجر من جديد... إلى (وراء البحار) منذ مدة... ولم يعد حتى الآن..!

 

مستشفى ميدلسكس
لندن - شتاء 1996م

 


 

[1] المرحل: طريق جبل يسلكه الناس والقوافل عبر المنحدرات الجبلية.

 

 


 Go Back to Short Stories Page