امــرأة

 

 كنت قد تعودت بلهفة يومية للاطمئنان على وجودها في حانوت (الزلابياء)... فأزاحم خلق الله السذج بنكاتهم وأخبارهم العجيبة السمجة... آخذ (مدرة البرعي) الساخن مع مسحوق من الزعتر والكمون و(البسباس الحار)، وأرشفها أمام حانوت (الزلابياء) المجاور وصاحبه الفتى (رزق) الجميل الذي يزيد من جماله ومن ملاحة محياه حرارة الزيت المغلي داخل القدر النحاسية الواسعة، وهو يتفنن في صنع (الزلابياء) بأسلوبه الرقيق الرتيب الحركات... تعلم ذلك عن والده وعن أخيه الأكبر (شوعي)، ذلك الذي أصبح خاملاً... يبيع الشاي في مدخل الحانوت مع قِدر من الفول الذي ينفد بسرعة في الساعة الأولى من الصباح...

كم سمعت الأب والأخ الأصغر (رزق) يلومانه أحياناً، ويلعنانه أحياناً أخرى، لأنه لا يطبخ قدراً كافياً من الفول. وكان يجيبهما بأن طباخة الفول ليست مهنته ولكنه يطبخ تلك الكمية المحدودة لإفطاره الشخصي وما زاد عن حاجته يبيعه... أما حرفته الأساسية، كما يقول، فهي صناعة (الزلابياء) التي أسندها الأب إلى أخيه الأصغر الفتى (رزق)... وسبَبَ ذلك التوزيع غير العادل في نظره معركة تقوم كل يوم بينه وبين أبيه، أو بينه وبين أخيه بدون الأب، لولا تدخل تلك المرأة التي تحسم الأمر لصالح الفتى (رزق)...

 لم أذق (الزلابياء) في حياتي... ومع ذلك كنت أجد المتعة واللذة وأنا أرتشف (مدرة البرعي) الملتهب وفي التفرج على صانع (الزلابياء) الفتى (رزق) وهو يقوم بحركاته البديعة بين الناس والزبائن المتلهفين داخل الحانوت الضيق وخارجه أو عند مدخل الزقاق الفرعي...

وبين حين وآخر كنت أمعن النظر في تلك المرأة التي تسابق الرجال وتزاحمهم، والتي اعتدتُ كل صباح أن أراها ملهوفاً بين هؤلاء...

هي امرأة متوسطة العمر ذات أنوثة طاغية... أقدّر عمرها بخمسة وثلاثين عاماً... لكنني متأكد بأن عمرها الحقيقي أكبر من ذلك... فالمعلومات الخاصة التي حصلت عليها عن طريق (شوعي)، الفتى الكسول، تقول بأنها في الأربعين عاماً وأكثر من ذلك...

تأخذ مكانها منذ الصباح الباكر بين الزبائن المتزاحمين على كرسي طويل من الخشب (يشبه المنضدة) يستند إلى جدران الحانوت البارد المتسخ-...

أمام الجميع منضدة طويلة من الخشب أيضاً متسخة وملوثة ببقايا نفايات (الزلابياء) والزيت والشاي ومخلفات الزبائن الأخرى...

تنتظر هي قرص (الزلابياء) الساخن مع فنجان الشاي من إعداد الفتى (شوعي)، تتناوله مع (مدرة البرعي) ثم تتناول قطعة من حلوى (الرواني) اللذيذ... وبعد ذلك يظن كل من يراها أن نظرها ثابت على إناء الزيت المغلي بأقراص (الزلابياء) التي يتفنن الفتى (رزق) في صنعها بمهارة وبحركات رتيبة دقيقة يومياً...

كان (رزق) الفتى الوسيم الجذاب، صاحب الشعر الأجعد والوجنتين المحمرتين والأنف الدقيق والشفتين الباسمتين والعنق المنتصب يبدو وكأنه تمثال من رخام للإسكندر المقدوني (ذي القرنين)... هذا الفتى الوسيم الذي يعتقد طوال الوقت أن نظراتها معلقة به... وإذا ما لاحظت أن أحداً يوجه النظر نحوها فإنها تدير عينيها بسرعة... فهي توزع نظرتها هنا وهناك مستكشفة تضاريس الوجوه البعيدة عنها بعد أن تكون قد ملأت نظرها من الفتى (رزق) ومن كل الوجوه المحيطة بها.

* * *

البسمة الرزينة الهادئة الساحرة لا تفارق شفتيها... كأنها (المونليزا)... كان صدرها المنتصب الذي تعجز كل وسائل الاحتياط والتستر عن إخفاء كنوزه هو أكثر ما يثيرني... وبرغم الستارة المزركشة التي تغلفها، كان صدرها يبرز قوياً، ويبرز فوقه نهدان يكادان يخترقان الرداء الحريري الأحمر...

سمعت أحد الجالسين يهمس لجاره:

-        إن الفجوة التي يحدثها النهدان في الصدر تستطيع أن تثير حتى الملائكة!

وقد غاصت في جوانبها المكتنزة شبه سلسلة ذهبية يتدلى منها شيء على شكل مصحف أو على شكل نسر الثورة والجمهورية...

لم تكن تكترث لبروز مفاتنها الطبيعية... ولم تكن تأبه لنظرات الناس إلى مواضع تلك المفاتن الموهوبة... كانت "تدعمم"[1] وتهتم فقط بما سوف تأكله من (زلابياء) وما تشربه من شاي... وكانت عيناها تمضغان الفتى (رزق) بشهية كأنه قطعة من (الرواني)... ولأنها كانت مثار اهتمام كل الرجال المتواجدين دائماً، فقد خيل إليّ بأنني مثار اهتمامها.!

كنت دائم الصمت أتعمد إخفاء عواطفي نحوها... وكانت تفعل الشيء نفسه أيضاً... يخيل إليّ بأن هموماً مشتركة تجمعنا، لأنها عندما تنتهي من تناول وجبتها اليومية من (الزلابياء) وتنهي استراحتها التي تسترق من خلالها النظر تخرج من الحانوت لتتحرش بي... تمر بجانبي وهي تفتعل الزحام... تلمس بنهديها جسدي... كم كنت أشعر بنشوة لا مثيل لها... وكم كنت أعاني من أثر ذلك الاحتكاك طوال الليالي المؤرقة... كنت أتخيلها دائماً...

* * *

كان فمها يبدو من بعيد وكأنه يتحلى بسنتين من ذهب غطت بهما مكان نابيها... وتبدو أيضاً وكأنها تتزين بأساور من ذهب تملأ معصميها العاريين... وكنت أرى على أناملها البضة الناعمة زخارف ونقوشاً من الحناء وأصباغاً سوداء مزركشة بديعة...

في خدها الأيسر أيضاً شامة خضراء تزيدها أنوثة فوق ما هي عليه من جمال وجاذبية... وكنت أعتقد بأن تلك الشامة الخضراء من الزينة الصناعية... لكني اكتشفت أنها شامة طبيعية فعلاً تضفي عليها مزيداً من البهاء والجمال كأنها النجم اليماني...

لا يوجد في الوجه الجميل أي أثر لمظهر التزين، فهي تؤمن بجمال الطبيعة غير المغشوش...

* * *

اعتدت على المزاحمة عند باب حانوت (الزلابياء). أصبحت عاشقاً ولهاناً لذلك المكان من أجل أن أراها... وقد يغيب الفتى (رزق) في بعض الأيام فيحل والده العجوز المتصابي محله فيملأ المكان بنكاته اللاذعة وببريق أسنانه الذهبية وبهزات شاربه المختال الذي يعلو شفتيه، وبلمعان رأس (جنبيته)[2] القديمة الثمينة المشدودة إلى خصره الدقيق، أو بما تعكسه عمامته المزركشة المحبوبة الهيئة بدقة من تمايل واهتزاز...

قد يغيب الأب مع الفتى (رزق) لسبب ما... ونادراً ما يحدث... فيحل بدلاً عنهما (شوعي) بائع الشاي والقليل من الفول الذي يستهلكه في مستهل الصباح رغم سماجته وكسله ومنادمته غير المحببة...

كان الفتى (رزق)، ومثله والده وربما أخوه (شوعي)، يعجبون لوجودي الدائم أمام حانوتهم وأمام قدرهم الزيتي الذي يغلي (بالزلابياء)...

وأكثر ما يضايقهم أنني أتفرج فقط...! بالرغم أني لم أكن الوحيد الذي يفعل ذلك... كان الكثيرون يفضلون رشف (البرعي) الساخن أمام حانوتهم...  قلت لنفسي ربما يكون مصدر ضيقهم نابعاً من إمعاني النظر نحو تلك المرأة...! مع أن الجميع ينظرون إليها بالقدر نفسه... هل كانت نظراتي إليها أكثر من الآخرين...؟!

ربما...! وإلا ما هو الداعي للتعجب والاستغراب والشعور بالضيق لوجودي أمام حانوتهم كغيري من خلق الله...؟

وخصوصاً أنني أقف على رصيف الشارع... شارع الحكومة وهو ملك عام...؟

* * *

تجلس دائماً في مكانها المعتاد داخل حانوت (الزلابياء)... بيدها كوب من الشاي من إعداد (شوعي) ونظراتها متوجهة نحو قدر الزيت المغلي بأقراص (الزلابياء) تنتظر قرصاً ساخناً منه...

قد تكون في بعض الأحيان شاردة الذهن... لكن الشرود يتلاشى بسرعة فتعود الابتسامة إلى شفتيها... وتبدأ في التطلع إلى وجوه زملاء وزبائن الوجبة الصباحية...

* * *

ليست المرأة الوحيدة التي تفضل تناول الزلابياء كإفطار أو (البرعي) أو (القنم) في هذا المكان... لكنها الوحيدة التي تزاحم ذلك الخلق المحتشد العجيب المتنوع في الأعمار وفي الأشكال وفي الملابس... هذا ببذلة أنيقة، وذلك بلباس الريف، وآخر بلباس المدرسة وغيره بلباس عسكري... الخ.

هي تجلس معهم بينما تقبع النسوة الأخريات بجانب فتحة الزقاق الضيق المجاور، مختفيات خلف ستائرهن الملونة...

* * *

كم يسحرني لمعان سنيها المذهبين كبريق نشوة وشهوة ورغبة جامحة! أمعنت النظر إليها كعادتي منذ شاهدتها للمرة العاشرة بعد المائة أو بعد الألف أو بعد القرون والعصور والأزمنة والدهور والحقب...

هي... هي... متوسطة الجسم لكنها تحمل من الأنوثة والجاذبية ما يتهافت على القرب منها كل جموع زبائن (الزلابياء) و(البرعي) و(القنم) و(الرواني) و(الكباب)...!! الكل يعشقونها ويريدونها... يتأملون مفاتنها كما أفعل...

شعرت بالغيرة تدك كياني، وبالذات عندما لاحظت بأنها تحتك بهم بنهديها كما تحتك بي... وكم راودني حلم الهروب منها إلى أي مكان آخر...

* * *

تأكد لي، رغم نظراتها الملتهبة كل صباح باكر، بأنها ساهرة حتى هذه الساعة... لم تنم...! كأنها كانت تقضي وقتاً ممتعاً طوال الليل... هذا ما خيل إلي...!؟

ملامح الإنهاك واضحة على وجهها وكل جسمها... وحتى ملابسها بالرغم من رونقها البديع...!

ويزيدني شغفاً بها ذلك التصور المريع الذي لازمني كصداع حاد... كيف قضت ليلتها الساهرة...؟

كنت أتمنى أن أقضي معها ساعة متأخرة من الليل... نمكث معاً حتى يحين وقت رشف (البرعي) وتناول (الزلابياء) و(الرواني) و(القنم)و(الكباب)... بل وإلى الأبد...

* * *

عانيت ردود أفعال عنيفة مختلفة... خفت على نفسي الفتنة وخشيت أن أرتكب خطئاً فاضحاً... كأن أعانقها مثلاً على مرأى ومسمع من الناس... أو أن تمتد يدي إلى مفاتنها البارزة دون شعور... فقد أحسست بأنني أعرفها منذ الطفولة... وبأنها أطعمتني أشياء لذيذة ما زال طعمها في فمي...

قررت أن أهجر هذا المكان... أن أبتعد عنها... حقاً أنا شغوف (بالبرعي)... لكن أماكن (البرعي) كثيرة في المدينة... وفي اليوم التالي ذهبت إلى (باب اليمن)[3]... وما كدت آخذ مكاني في محل بيع الزلابياء والبرعي حتى فوجئت بها... نعم فوجئت بها وهي تنظر نحوي وتنظر إلى كل من في المكان... كأن المكان لم يتغير...

هربت مرة ثانية إلى (سوق الملح)[4] أتناول إفطاري المعتاد هنالك... لكنني وجدتها عند بائع (الزلابياء) المجاور لبائع (البرعي) الذي أرشف (مدرته)... إنها هي بعينها... بمفاتنها الطاغية وبابتسامتها الرزينة الهادئة المثيرة... الكل يعشقونها ويريدونها ويتأملون مفاتنها... هنا أيضاً شعرت بأنها تحتك بهم كما تحتك بي بنهديها البارزين....

* * *

وهربت مرة أخرى إلى مكان آخر... كان هذه المرة (باب شعوب)[5] لكنني وجدتها أيضاً هناك وكأنني وإياها في (باب السباح) أمام بائع الزلابياء الفتى (رزق)...! شعرت بأن الكل يعشقونها ويريدونها ويتأملون مفاتنها...

وهربت منها أكثر إلى (باب القاع)[6]... كان بائع(البرعي) وزوجته صانعة الزلابياء في الزاوية نفسها... لا حانوت يفرقهما... فهما في ممر الزقاق الضيق يبيعان (البرعي) و(الزلابياء)، وما أن رشفت من (مدرة البرعي) الرشفة الأولى حتى وجدتها أمامي تتناول قرص (الزلابياء) كعادتها دائماً...

عدت إلى (باب السباح) وقد قررت مصارحتها إن وجدتها هناك بمشاعري نحوها... ومع ذلك لم أجرؤ...

كانت تخرج من الحانوت وأنا ما أزال واقفاً أرشف من (مدرة البرعي) الساخن... وأرشف جسمها كله بخيالي، أفكر كيف كانت عليه في ليلتها الماضية التي كنت أتخيلها حسب ظني...!

وكم كانت تزاحم خلق الله وهي خارجة من الحانوت كعادتها حتى تصل إلى مكاني فتزيحني بحركة كنت أشعر بأنها لم تقصد إثارتي بها... ولكن ذلك تكرر للمرة المائة... للمرة الألف... للمرة الدهر والحقب... وهو يتكرر حتى الآن!.؟

 

صنعاء: 21/10/1983م.


 

[1] تدعمم= تتجاهل.

[2] جنبيته = (جنبية) = الخنجر اليماني المعروف.

[3] باب اليمن أو (باب الحرية)، وهو الباب الجنوبي لمدينة صنعاء القديمة.

[4] سوق المح= من أسواق مدينة صنعاء القديمة..

[5] باب شعوب= أحد أبواب مدينة صنعاء الشمالية.

[6] باب القاع= باب مدينة صنعاء المؤدي إلى قاع اليهود (قاع الشهيد العلفي حالياً).