النــاسك

 

 

كان سكان الحارة يهابونه ويحترمونه.... ذلك الاحترام الخالي من الود.

لم يكن بالرجل الجائر القاسي أو من أصحاب النفوذ أو من أصحاب الحظوة عند ذوي السيف والصولجان...

كان أدق وصف له هو ما أطلقه عليه حكماء الحارة من الصالحين... أنه ناسك في ديره أو زاويته أو تكيته... وبعض المتحذلقين من سكان الحارة الذين انفتحوا على الجوار يقولون إنه مفكر وفيلسوف ينزوي في برجه العاجي، بين أكوام من الكتب... ربما كان بعضها مفيداً وبعضها الآخر كفراً بوّاحاً...!

هذا البرج أو الدير أو الزاوية أو التكّية الذي يقطنه الرجل كان عبارة عن غرفة على سطح إحدى بنايات الحارة...

يدّبر أمر معيشته كمخلوقات الله مع قطته الأليفة التي أصبحت جزءاً من حياته...

-          لا زوج له ولا ولد، وربما لا أقارب أيضاً... ماذا ينفعه في الحياة؟!

-          أمثاله يكونون بخلاء مقترين على أنفسهم...

كان يسمع مثل هذا الحوار، وأكثر منه، وهو يسير في أزقة الحارة... ومع ذلك لم يتعرض لأي أذى... الكل يحترمونه ويهابونه... وبعضهم يتمنى أن يعيش حياته...!

-          رغم ورعه الظاهر... فإنه يكاد يقطر سماً...!

-          تصور... إن تصرفاته في بعض الأحيان تبدو... سادية.!

-          لا حول ولا قوة إلا بالله...! احكموا بالظاهر... وما خفي فحكمه لله...

يسمع هذا الحوار أيضاً أثناء عودته من عمله الروتيني البسيط...

ومع ذلك فهنالك من يحنو عليه ويرنو بحب صادق نحوه...!

* * *

هو... ولوعٌ بالقراءة والإطلاع... له إبداعات أدبية وفلسفية يقرأها الناس والمطلعون منهم يودون معرفته... وبالذات أصحاب الاهتمامات الإبداعية في مجال الأدب والفن والثقافة والفلسفة... عموماً المستنيرون القلة التي تمثل واجهة الحضارة التقدمية الإنسانية السمحة...

مقّلٌ هو في ارتياده الأماكن العامة المشهورة التي يرتادها الأدباء وقليلو الأدب أيضاً...!

عَزوف عن الظهور الملمع حتى في عتمة الحارة التي كان أغلبية سكانها من أكثر سكان المدينة بساطة في الحياة والمعرفة... ومن الذين منَّ الله عليهم ببسطة في الجهل...!

* * *

هاجت الحارة وماجت... واتجه بعض سكانها الأشاوس بمظاهرة غاضبة نحو البناية التي يسكن في سطحها...

كان قد سمع خطيب "الجمعة" في مسجد الحارة بواسطة مكبرات الصوت العديدة يسلط السيف على عنقه ويكفره ويحكم عليه بالموت... لم يفزع كأرنب وجل... بل ابتسم وهو يرنو إلى الجموع الهادرة من على سطح البناية...

* * *

كان قد كتب في إحدى الصحف مقالاً عن الجنة... وقال فيه ما معناه أن الحياة في الجنة قد تكون مملة وراكدة ولا طعم لها... لأنها تفقد الإنسان الحركة واللذة في المشقة والجهد للوصول إلى طموحاته... وقال فيه أيضاً:

"إذا وفرتَ للإنسان كل رغباته بلا جهد فأي معنى لبقائه...!؟" ... "إنه يفضل الحياة الأخرى التي لابد أن تدفعه فيها الحاجة للابتكار والاختراع... كاختراع مكيف الهواء مثلاً ليخفف من وهج حرارة النار...!"

* * *

المال الذي يكسبه من عمله ينفقه في شراء الكتب والورق وأقلام الحبر وبعض الصحف والمجلات المتخصصة... والنزر المتبقي ينفقه في أضيق الحدود على مطالب الحياة اليومية...

عاف السياسة وما يتصل بها... بعد أن ذاق من أجلها مرارات الغربة وذل السجون والمعتقلات على أيدي زبانيتها... كاد ذات مرة أن يفقد عقله المتزن، الذي ما زال في اعتقاده أنه فقده فعلاً وهو يمارس حياته اليومية الراهنة...

* * *

في فترة انتعاش الوطن حماسياً في كل المجالات والنواحي كان هو صوت الأمة... وكان أحد معالم الوطن الشامخة... أثرى المشاعر وألهب الوجدان بما يكتب وما يخطب وما يتحدث به للناس... حتى وقع الوباء الذي عشعش في كل مكان...

ابتسم لوصول ذاكرته إلى تلك الفترة التي مضت وهو يهتز على كرسيه باسترخاء... ورجلاه ممتدتان على صندوق خشبي قديم على سطح البناية، ويداه مشبوكتا الأصابع وراء رأسه... يستمع إلى صوت هادئ خافت كخفوت ليل المدينة لمقطوعة من سيمفونية لبتهوفن ينبعث من مسجله القديم العنيد... بجواره قطته الأليفة الوديعة الوفية المستسلمة من حين إلى آخر ليده الدافئة في حنان...

-          أسعدت مساءً... بل أقول صباحاً... فقد تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل...!

انتفض قائماً... حاول إقفال المسجل... لكن الزائر تودد إليه بأن يتركه ما دام صوته خافتاً...

-          عساك غير متألم من حشد هذا اليوم...؟!

ابتسم ولم يجب...

-          تأكد أن أغلبهم لم يعوا ولم يريدوا أن يحدث ما حدث...

ابتسم مرة أخرى ولم يجب...

-          تأكد أن معظمهم الآن في حالة تأنيب للضمير... يحاولون التكفير عن عملهم...

دخل إلى غرفته وأحضر كوباً إضافياً لزائره ليشاركه ليلته... أو صباحه.

 

صنعاء: 29/9/1987


 

 


 Go Back to Short Stories Page