Dammaj.Net - Under Development






 

 

Back to Novel Page
Back to home page

          

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

          

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

الرهينة

الفصل الأول

كم هي جميلة هذه المدينة! شاهدتها لأول مرة عندما أُخذت من قريتي ووُضعت في قلعتها (القاهرة) بين رهائن الإمام.

أخذني "عُكْفَة"([1]) الإمام ذوو الملابس الزرقاء عنوة من بين أحضان والدتي ومن بين سواعد أفراد أسرتي المتبقين.

لم يكتفوا بذلك، بل أخذوا حصان والدي تنفيذاً لرغبة الإمام.

كان يوماً معتدلاً، خفَّت فيه حدة هطول الأمطار لتتيح لنا مشاهدة المدينة والقرى البعيدة المتلألئة فوق الجبال... كان الجو صافياً. إنه "عَلاّن"([2])، شهر التأهب للحصاد.

كنت مع زميلي "الدويدار"([3])، الدويدار "الحالي"([4]) -كما يسمونه- على سطح دار "النائب"([5]) العالي. لا أدري لماذا أحببت صداقته! ربما لتقارب السن، وربما لعملنا المشترك.

كنت قريب العهد في منزل "النائب"، نائب الإمام و"عامله"([6]) على المدينة وما يتبعها، عندما أخذوني قسراً من قلعة القاهرة، معقل "الرهائن"([7])، وأُدخلت من بوابة قصر النائب وأنا أتذكر نظرات الازدراء التي ودعني بها زملائي "الرهائن".

كنت على علم بأن بعض "الرهائن" قد أُخذوا، إلى قصور الإمام وبعض نوابه وأمرائه، "دوادرة". وكنت أسمع أن بعضهم قد تمكن من الفرار، والبعض قد فشل فكبلوه بالقيود الحديدية في قلعة القاهرة مدى الحياة.

الشيء الذي لم أكن أعرفه هو معنى "الدويدار" وما هو عمله! ولم أكن أعي أي تفسير يقال؛ ربما لصغر سني.

-        من شروط "الدويدار" أن يكون صبياً لم يبلغ الحلم.

هكذا كان يقول أستاذنا (الفقيه)، السجين أيضاً معنا، والمكلف بتعليمنا القرآن والفروض والطاعة، في قلعة القاهرة معقل الرهائن.

-        يقوم "الدويدار" حالياً بعمل "الطَّواشي"([8]).

وعندما تبدو علينا الحيرة يقول:

-        و"الطواشي" هم العبيد المخصيون.

فنزداد حيرة أكثر.

-        والخصي هو من تُضرب خصيته.

ونحتار أكثر أيضاً من جديد متألمين لهذا العمل القاسي، فيقول:

-        لكي لا يمارس عملاً مشيناً... جنسياً، كمضاجعته نساء القصور. أي بمعنى آخر يجب أن يكون فاقداً لرجولته، أي بمعنى آخر عاجزاً.

ونحتار أيضاً، فيقول بغضب:

-        هذا يكفي... مفهوم؟

-        غير مفهوم يا "سِنَّا"([9]) الفقيه.

يقوم غاضباً لردنا الجماعي الذي كان يعتبره وقحاً أو وقاحة، فنصيح بنشيدنا المعتاد:

-        غفر الله لك يا سيدنا.. ولوالديك مع والدينا... الخ.

 

* * *

كان بعض الرهائن ممن مارسوا أعمال "الدويدار" ثم عادوا إلى "قلعة القاهرة" مرة أخرى لبلوغهم الحلم -كما يقول الفقيه- يحكون أشياء غريبة وعجيبة علينا.

وكنت ألاحظ أن معظم العائدين منهم إلى القلعة قد تغيرت ملامحهم؛ حيث غدوا مصفري الوجوه بالرغم من ظهور نعومة شاملة في أجسامهم مع شيء من الترهُّل وذبول في غير أوانه.

كنت ألاحظ أيضاً اهتمام حرس القلعة بهم، هؤلاء ناعمي الملمس رقيقي الأصوات... بملابسهم النظيفة المرسلة حتى الأرض، وبتلك "الكوافي" المزركشة التي حاكتها نساء القصور، فوضعوها على رؤوسهم لتخفي شعرهم المجعد الممشط، الذي تفوح منه رائحة الدهون المعطرة التي يستنشقها بلذة أفراد الحرس والفقيه، مدرسنا، أيضاً الذي يبالغ في مراعاته لهم بسماجة أكثر مما يلزم، مما كان يدفع ببعضنا للاحتجاج والتذمر لهذه المعاملة المتميزة، فيصيح غاضباً:

-        أوباش..! إخرسوا يا متوحّشون..! أعوذ بالله من أشكالكم وطباعكم أيضاً..!

-        غفر الله لك يا سيدنا.. ولوالديك مع والدينا.. يا حنّان يا منّان...

وينفضّ الرهائن من الدرس ويتّجهون إلى سطح السور المطلّ على المدينة، يمرجحون سيقانهم في الهواء، وينظرون إلى الأفق البعيد، كلٌّ يبحث عن قريته وراء الجبال.

كان "الفقيه"، مدرسنا، رغم وجود العصا في يده، لا يجرؤ على رفعها على أحد منا.

حاول مرة وضرب بها أحد الرهائن، فأدى ذلك إلى كسر ذارعه ونتف لحيته، ولم يعاود ممارسة ذلك مرة أخرى.

 

* * *

عندما وصلت إلى دار "النائب"، فرح صديقي "الدويدار" بي، وغمرته سعادة لم أكن أتوقعها.

وبدأ يعرّفني على كل جزء من القصر الواسع وملحقاته. وكنت أصادف، وأنا معه، نساء من مختلف الأعمار وعلى مستويات متفاوتة من الجمال والهندام وحسن الملبس...

كنتُ أنزوي عندما كان يقوم بتعريفي بهن:

-        هذه عمة النائب..

-        ...

-        هذه ابنة النائب..

-        ...

-        هذه أخت النائب، المطلّقة.

-        ...

-        وهذه زوجة النائب الثانية.

-        ...

-        هذه الأولى.

-        ...

-        وهذه الخادمة الجديدة.. إنها جميلة كما ترى.. أليس كذلك؟

-        ...

-        وهذه القديمة.

-        ...

-        وهذه التي تحلب الأبقار.

-        ...

-        وهذه المربّية... مربية الأطفال و... و...

ولم أكن أجيب أيضاً. كنتُ أنكمش حين يربّتن على كتفي، وأنفر حين تمتد أيدي بعضهن لقرص وجنتي أو فرك شفتي بتلذذ.

كنتُ أتقزز من ذلك، بينما كان زميلي يضحك ملء شدقيه، ويهرع بي من السلالم الواسعة المرصوفة بالحجارة المربعة ليقودني إلى "الحمّام" التركي.

سراديب وقباب وممرات كلّها مرصوفة أيضاً بالحجارة المربعة السوداء، ملحّمة "بالقضاض" المصنوع من "النورة" البيضاء.

البخار يتصاعد بكثافة عند "القَمَرِيّات"([10]) الرخامية الجاذبة للضوء. تردّدتُ في الدخول.. لكن زميلي قال:

-        لا تخف..! ليس اليوم للنساء!

-        للنساء أو الرجال...! لن أدخل هذا المكان مرة أخرى.

-        هل تعرف أننا الوحيدان في هذا القصر اللذين يحق لنا دخوله في أي وقت، سواء كان ذلك يوم النساء أو يوم الرجال؟

شعرت بجسمي يقشعّر، وقلت:

-        لن أدخله أبداً!

قال وقد جذبني خارجاً نحو إسطبل مهجور للخيل:

-        سوف تدخله مستقبلاً!

بدأ يشوّقني بحكايات لمشاهدات عاشها داخل ذلك الحمام، وعن النساء، الكبيرات والصغيرات والعوانس منهن بالذات، وكيف يغمرهن الفرح بمقدمه لخدمتهن.

 

* * *

كان إسطبل الخيل واسعاً، تنبعث منه رائحة ذكّرتني بـ"سَفِلْ"([11]) منزلنا في الجبل... رائحة "روث" وبول البقر والثيران ممزوجة برائحة التبن و"العجور"([12])... وأصوات الدجاج المنزعجة لقدومنا بينما كانت تنبش بأظافرها أكوام السماد باحثة عن الحشرات.

كم كان والدي حريصاً على بقاء "النواقيس" النحاسية على رقاب الثيران! كان وقع أصواتها الموسيقي يطربني كلما مررت بـسَفِلْ دارنا الريفي، أو في المراعي أو عند النبع... حتى الجِمال والحمير في جبلنا كانت تعَّلق على أعناقها تلك الأجراس النحاسية القديمة التي تحذّر الناس والأطفال بالذات في الطرقات والأزقة.

لم أشاهد في إسطبل النائب، ذلك الواسع، سوى بغلتين فقط. أما أبقاره الحلوب فهي في مكان قريب من باب قصره الخلفي.

وعندما تملّكتني الدهشة، أسعفني زميلي "الدويدار" بالإجابة قائلاً:

-        الخيل يأخذها الإمام ووليّ عهده سيف الإسلام الأمير، إلى قصورهم، ولا يبقون سوى بعض البغال والحمير.

-        ولكني لا أجد حماراً واحداً؟

-        أمثالي وأمثالك، والآخرين..!

لم ترُقْ لي عبارته التي كان يعدّها نوعاً من الممازحة الظريفة. كنا قد توقفنا عند باب الإسطبل لنواجه فناء القصر الواسع، حيث اكتشفت أنه مكون من عدة قصور، منها القديم ومنها الجديد. قال زميلي:

-        تلك الدار القديمة، المبنية بالآجُرّ، مخصّصة لأخت النائب المدلّلة والمطلّقة... وهي جميلة.

-        وكل هذا من أجلها..؟!

-        لأنها من أمّ أخرى. تركت لها والدتها ثروة أكبر من ثروة والد النائب.

لم أسأل بعد ذلك، فقد انشغلت بالتطلع إلى الأماكن الأخرى، فقال:

-        إسمها حفصة... "الشريفة"([13]) حفصة.

أطرقت مستمعاً. فتمهل قليلاً ثم قال بعد أن بلع تنهيدة كانت ستخرج من جوفه:

-        استطاعت بثباتها أن ترغم ابن عمها على أن يطلقها.

وظللت مستمعاً، فاستمر قائلاً:

-        وحدثت أزمة كبيرة، تدخّل فيها مولانا وليّ العهد لصالحها.

لم أجبه وإن كنتُ قد حاولت التساؤل عن سبب الطلاق، لكنه استرسل مجيباً:

-        كان زواجها من ابن عمها في صالح النائب.

هززت كتفي، فاستمر قائلاً:

-        لأن النائب متزوج بأخت ابن عمها.

ابتسمت لهذه الفزورة اللغز، فقال:

-        وخوفاً من أن يؤول الميراث إلى الغير، تمَّ الزواج، وسيكون الإرث متوازناً.

أعنت اهتزاز كتفي بابتسامة استفسار، فقال:

-        لكنها رفضت ابن عمها منذ الليلة الأولى؛ كان يسهر عادة حتى الفجر مع القات.

نفضت جمود استفساراتي بأن قلت سريعاً:

-        ألهذا السبب تمَّ الطلاق؟

ابتسم وقد انتشى لحضوري المباشر معه، قائلاً:

-    ليس هذا هو السبب، هنالك أسباب أخرى مهمة، منها عجزه التام عن نيلها، لضعفٍ فيه متأصل، ولكبر سنه أيضاً؛ فلديه عدة زوجات وأبناء لا حصر لهم.

لم أندهش لذلك، ولم أستفسر أكثر من اللزوم، فقال ونحن نمشي نحو ذلك المنزل، وقد شدّني كلامه:

-        هي صغيرة.. أصغر أبناء العائلة. وكان والدها يحبّها ويدلّلها؛ محبةً في والدتها التي كانت أصغر زوجاته وأجملهن وأكثرهن ثراء.

لم أشعر بالإرهاق ذلك النهار، بالرغم من أن صاحبي قد جال بي معظم جوانب عالمه العجيب. كان فرحاً ومرحاً، متشبّثاً بي، تغمره السعادة لوجودي معه، فكم أصوات نادته دون أن يجبيها، أو يأبه لها!

كانت غرفته تقع في منعطف أحد السلالم الواسعة. جذبني إليها وهو يقول:

-        هذه غرفتنا.

-        غرفتنا!؟

-        نعم، غرفتنا!

اتجهت صوب النافذة الصغيرة الوحيدة داخل الغرفة، استرحت مقرفصاً بجوارها، وأمعنت النظر بعد ذلك في داخل الغرفة. كان قد خرج فجأة. في الغرفة فراش صغير قد برز التبن المحشوّ به من ثقوب عدة، ولحاف شبه صوفيّ أسود اللون معطَّف عند مرقد رأسه فوق مخدّة متّسخة يكسل أن يغسل كيسها القطنيّ المزركش.

يحفُّ بزاويته تلك، صندوق خشبي ملوّن بأصباغ رخيصة، وضعه بجانب الفرش المهترئ لمنعه من الانزلاق أثناء نومه، ويسهل عليه فتحه متى شاء، ويحفظ بداخله ملابسه وأشياءه الأخرى.

توقف نظري عند بعض الصور التي ألصقها على الحائط، ولا أدري كيف استطاع لصقها، وإن كان يخامرني الشك بأنه قد استعمل في ذلك لعابه.

صورٌ متكررة لفتيات جميلات ذهبيات الشعر، زرق العيون... لم أشاهد لهن مثيلاً في حياتي.

قال لي مرة إنه يقوم بقص صورهن من بعض الصحف والمجلات التي تصل إلى النائب من "بلاد مدخل"([14]). كانت هنالك أيضاً بعض صور لأشخاص بألبسة عجيبة. كان يقول كالمعلم العارف:

-        هذه صورة "الفوهرر"، هتلر. وهذا "موسليني"، ملك الطليان. أما هذا الشيخ الوقور فهو "المختار"، عمر المختار.

كان مزهواً بأنه يعرف الكثير مما أجهل، فيزداد تعالياً عندما يكلمني عن سماعه لأخبار العالم من مذياع النائب، وبأنه الوحيد الذي يقوم بتشغيل ذلك الجهاز الذي يلتفّ لسماعه حشد كبير من الناس داخل القصر وخارج أسواره أيضاً. يعرف كل الأوقات وجميع المحطات والرموز والألغاز. كان يضحك مني ساخراً وهو يقول:

-        الآن ستدق ساعة "بج بن" معلنة الساعة الرابعة مساءً بتوقيت "جرينتش"... الآن موعد تعليق "يونس بحري" من إذاعة "برلين"...

كنتُ أضحك بتعجب لهذا الكلام الجديد عليَّ.

أحضر لي فراشاً ولحافاً، وسألني، قبل أن يلقي بهما من على كتفه، عن أي زاوية أختار داخل الغرفة. وأجبت مازحاً:

-        الضيف في حكم المضيِّف.

ضحك وقد رمى الفراش واللحاف في الزاوية المقابلة له، ثم جلس بجواري وبدأ يحكي من جديد:

-        أنت لا تعرف -طبعاً- صندوق الطرب؟

لويت شفتيّ مستغرباً للكلام الجديد، فقال:

-    صندوق الطرب عبارة عن جهاز أكبر من الراديو.. لكنه يصدر الأغاني الجميلة.. لـ"القعطبي" و"العنتري"و "الماس" و"الشيخ علي أبو بكر" ([15])...

في الحقيقة سرد لي أسماء ربما سمعت عنها فقط، لكنني لم أسمعها تغنّي مطلقاً. وسرد لي أسماء أخرى عرفت فيما بعد أنها لمطربين من بلاد العرب الأخرى.

لا أدري ما الذي دفعه بحماس لجذبي والسير بي إلى مكان رائع في القصر، مرتّب في غاية النظام والنظافة، وأجلسني على مفرشة فارسية، ثم أشعل "لمبة" غازية عرفت أنها "لمبة الألف"([16]) المضيئة بشعلتها الدائرية التي كان لدينا في منزلنا واحدة منها أخذها جدي إلى ديوانه من "حملة لحْج"([17]) مع "سعيد باشا" القائد التركي. وكانت تضاء لنا في شهر رمضان فقط! وقد أخذها "العكفة" و"السواري"([18]) فيما أخذوا من بيتنا.

وبدأ صاحبي يحرك صندوق الطرب الكبير المصنوع من خشب الأبنوس، ووضع الاسطوانة الأولى والثانية والثالثة... حتى بدأت أملّ فتثاءبت.

عدنا، وبدأ يكمل مشواره من جديد؛ فقلت متأدباً:

-        ألا ترى أننا سنمكث معاً وقتاً طويلاً، وأخاف أن لا نجد ما نتكلم فيه مستقبلاً؟!

ضحك، وقد غشي الظلام المدينة والقصر وغرفتنا أيضاً، حيث لم يكن لديه ما نستضيء به سوى فانوس صغير قد علاه الصدأ مرميٍّ في زاوية من الغرفة، تعلوه الأتربة والأوساخ والحشرات الميتة، فأصبح وجوده وعدمه سواء.

ارتمى على فراشه بعد أن اطمأن على وضعي. وبرغم التعب والإرهاق فلم أستطع النوم، ظلّت عيناي مشدودتين إلى النافذة الصغيرة والوحيدة الصادر منها ذلك البصيص من نور النجوم.

سمعت وقع أقدام على السلالم، خفيفة وحذرة. توقفَ ذلك عند باب الغرفة غير المقفل بإحكام، ثم سادت لحظة صمت سمعت خلالها صوتاً خافتاً ينادي:

-        عُبادي...! عُبادي..! يا عُبادي! يا حالي! بس ..بس..!

كتمتُ أنفاسي وقد أحكمت اللحاف حول وجهي. شعرتُ به قد قام من مرقده، وتكرر الصوت هذه المرة من داخل الغرفة.

تأكدتُ أنه قد قام مضطرباً، ثم بتروٍّ قال:

-        من؟ ماذا تريدين يا "زهراء"؟

لم تجبه، بل شعرتُ أنها قد اقتربت منه وجلست بجواره، بينما قال:

-        ألا ترين أن لديّ ضيفاً هذه الليلة؟

-        أعرف ذلك.. وما الذي جعلك ترقده لديك، ففي الدار غرف لا حصر لها كعدد أيام السنة؟!

لم يجبها. وشعرت بعد ذلك بأنها تقترب منه أكثر. تحوّل همسها إلى فحيح ملتهب. كان يحاول أن يثنيها متعللاً بوجودي، ولكن كل محاولاته باءت بالفشل، وأصبح الفحيح مشتركاً.

لم أشعر بالخوف في حياتي كهذه الليلة. وانتهى الفحيح لتأخذ منه قبلة علا صوتها مدوياً مما جعله ينزعج خوفاً من أن أكون متيقظاً، وتسللتْ خارجة.

شعرتُ به يتوجه نحوي بعد ذلك ليطمئن، ثم همد راقداً وقد علا شخيره ليطغى على أصوات الديكة وكلاب المدينة التي زادت من سهادي.

وتجلجل مع الفجر أصوات العساكر والحرس بأنشودة الصباح الباكر المعتادة:

يا الله رضاك.. يا الله رضاك..

وارضى علينا برضاك..

واحنا طلبناك عظيم الشان..

يا فاتح أبوابه.

نهضت من نومي الساهد، كالمضروب، جميع مفاصل جسمي منهكة. فتحتُ النافذة الصغيرة لأرى شبه سحابة وباءٍ صفراء تُخيم على المدينة.

كان صاحبي قد نهض مبكراً قبلي بعد أن رتب فراشه، ثم عاد وفي يده "جَمَنة"([19]) صغيرة من القهوة، و"جفنة"([20])، وألقى بتحية الصباح باسماً كعادته:

-        عساك نمت مرتاحاً..!

هززت رأسي مجيباً. أصلحت من ملابسي، واتجهت معه إلى "دكة"([21]) العساكر عند البوابة الرئيسية للقصر. شعرتُ بأن ذلك أنسب مكان يلائمني حتى تنتهي هذه الوحشة.

كان العسكر خليطاً من جند "نظام"([22]) وجند "برَّاني"([23])، ببنادقهم "الموزر" و"الصابة" و"البشلي" الطويلة.  كان جند "النظام" أكثر دقةً وانضباطاً، حتى في مظهرهم ومرقدهم ومأكلهم ومشربهم.

كان "كاوش"([24]) جند النظام على يمين البوابة، تعلوه غرفة حراسة يسكنها "البورزان"([25]) الذي قيل أنه احتلها نهائياً ورفض الخضوع حتى لأوامر النائب بإخلائها.

أما "كاوش" جند "البرَّاني" فكان خارج البوابة على يسارها، يطل على الميدان الفسيح الذي تطل عليه شجرة "طولقة" عملاقة من الجانب الآخر تظلل سبيل ماء تعلوه قبة صغيرة بيضاء ورواق "مصلول" بالحجارة، يقوم النائب فيه باستعراض شكاوى الرعية اليومية مع عسكره وكتبته وحشمه وخدمه.

استقبلني الجند، نظاماً وبرَّانية، بكرم واضح اندهش له صاحبي. ويبدو أنهم كانوا من منطقتي؛ يعرفون أسرتي، وابن من أكون.

واتّكأت على حجر كان معدّاً لهذا الغرض. بينما بدأتْ الحياة تدبُّ في فناء القصر وملحقاته الجديدة، بعضها كانت قصوراً لآباء وأجداد النائب.

وكان السور المحيط بكل ذلك عالياً، لا تنفذ منه سوى فروع الأشجار الباسقة.

وبدأت النوافذ العديدة تفتح، بعضها بصوت مزعج، تشرئب منها بعض وجوه نساء بشعورهن المجعدة وبعضهن بما يغطي ذلك. مجموعة عجيبة ومتنافرة من النساء.

كان الجند قد استقبلوا صاحبي الدويدار بـ"زامل"([26]):

يا دويدار... قد امّك فاقدة([27]) لك..

دمعها كالمطر..

كم كنتُ معجباً برشاقته ونشاطه! ويبتسم! كان ذكياً، سريع البديهة، قليل الكلام، حاضر النكتة، يعرف نفسية كل فرد من شخصيات القصر وملحقاته، نساءً ورجالاً، بل وأطفالاً أيضاً. كان يعرف كذلك عساكر البوابة، نظاماً وبرَّانية، والبورزان أيضاً.

كان يحوم كالنحلة، من القصر إلى ملحقاته، ثم يعود ليجلس بابتسامته المعتادة قليلاً، ثم يقوم من جديد يدب ويحوم... وهكذا.

جلس بعض الجند حولي يتفحصونني بدقة. وبعضهم الآخر يفرش ابتساماته الواسعة السمجة على شفتيه المتدلّيتين.

لم أشعر بأنهم غرباء عني. ففي معقل الرهائن، قلعة القاهرة، أناس مثلهم، زملاؤهم. كان يطيب لي المكوث معهم، لأن معظمهم من منطقتي -ربما كهؤلاء- يعرفون أسرتي وعشيرتي وقبيلتي، وابن من أكون.

كم كنتُ أحلم بأن أصبح جندياً مثلهم! ولو حتى جندياً "برَّانياً"، أحمل السلاح وأنظفه كل صباح كما يفعلون، وأزينه بقطع من الفضة أو النحاس وبرُقَع من القماش المزركش، وأدهنه بزيت نخاع سيقان الكباش "المحنوذة"، و"أتنفذ" على الرعية لكي أكسب رزقاً وفيراً...!

وأطلّ "البورزان" من على سلم غرفته الطينية، وحيّا بواسطة بوقه النحاسي زملاءه. ورغم بلوغه سن الستين وربما أكثر، إلا أنه يبدو وسيماً، بحيوية، كأنه شاب مراهق. كان الوحيد حليق الذقن. أما شاربه المختال بعنترية هلالية فقد كان مصبوغاً بالحناء.

كان ملبسه نظيفاً على وجه العموم لأنه أبيض اللون، وهو -كما يبدو- اللون المحبّب إليه. كل شيء فيه مرتّب بانسجام متناهٍ في الدقة، من عِمّته حتى حذائه التقليدي الذي كان يتباهى به على زملائه الحفاة من الجند النظام أو البرَّاني، أو "الطبشية"([28]).

كان الوحيد الذي يملك حذاءً "عدنياً" يحدث صوتاً تصرّ له الأسنان، ويذكّرني بالنشأ الذي يضاف إلى "المحلبية" في شهر رمضان.

تأملته وهو يقفل باب "نوبته"([29])، ثم ينثني كعصفور مرح نحونا. كانت بندقيته موشاة بالحلى الفضية وبقطع من العملات النقدية الأجنبية المخرومة من وسطها. يتأبطها على كتفه الأيسر، وقد احتزم "بجنبيّة"([30]) ذات رأس "صيفاني" أصيل، مشدودة بقوة على خصره "الدّقل". و"طياره"([31]) المتدلي من على كتفه الأيسر من الأمام والخلف مملوء بالذخيرة الـ"صاغ سليم"([32]) وقد تدّلى من خصره بوق نحاسي مزيَّن بالذوائب الملونة بلون الذهب من حزامه، ليستقر على فخذه الأيمن. بينما كان مئزره النظيف لا يتعدى ركبتيه، حيث تظهر عضلات ساقيه المفتولة الخالية من الشعر والمدهونة بما علق في يديه من شحوم وزيوت وجباته الدسمة الدائمة، والمصبوغ بها أيضاً حذاؤه العدني وشعر رأسه الطويل وكذلك رأس جنبيته.

وضع بندقيته بلطف وحذر على جدار البوابة، وجلس بجوارنا.

تساءل عني بنظراته. كانت عيناه مكحولتين -بكثافة واضحة- بالإثمد الأسود وبطريقة بارعة في الإغراء والجاذبية. وبصوت شجي:

يا دويدار..

قد امك فاقدة لك..

                                    دمعها كالمطر..

قلت لصاحبي وقد استراح وأراحني وأنا أتأبط ذراعه:

-        لم تعرّفني بزهراء!

نظر إليّ مليّاً ثم ضحك وقد ترك ذراعي قائلاً:

-        هي أخت النائب، العانس!

-        عانس؟

-        نعم.

-        ولكن..

-        ولكن... لها طرقها الخاصة.

-        لم أفهم!

-        تحفظ الأيام القمرية بدقة!

لم أفهم حقيقة كلامه، بينما جذبني نحو دار "حفصة" وهو يقول باسماً بمكر:

-        دعك من "زهراء"! هنا يسكن أجمل من خلق الله، في هذا البيت.

-        تعني الشريفة حفصة، أخت النائب؟

-        نعم. هي الصغرى ولها جاذبية تشدّ أي مخلوق نحوها ليقع في حبها، ويهيم في هواها، ويموت أيضاً.

-        إلى هذه الدرجة!؟

-    نعم. مسكين ابن "كامل"، سائق النائب المقرب، مات في حادث غامض.. قيل ذلك، وفي اعتقادي أنه انتحر من أجلها. هذا اقتناعي، وهو صحيح رغم معارضة الآخرين.

-        أهي قاسية إلى هذا لحد؟!

-        ليست قسوة كما فهمت، إنما لوجود حاجزٍ كبير، وربما أشياء أخرى سأشرحها لك فيما بعد.

لم أحاول أخذ المزيد من المعلومات منه، فقد وصلنا إلى الباب الذي فتحه بجرأة، ثم أخذ بيدي إلى الدرجات الأولى، وأنا أحاول أن أمانع وقد شعرت برهبة طاغية.

كنت أتوقع أن أجد الشريفة حفصة في كل منعطف من منعطفات السلالم الطويلة. لكنني وجدت أن الدار مليئة بنساء يمكن أن يكنَّ من ضمن حشم وخدم الشريفة حفصة.

ألقى صاحبي بتحياته على كل من التقينا بهنّ مع تعريفهنّ بهويتي الجديدة (كدويدار). العملية نفسها تكررت في كل دار!

كانت "المنْظرة"([33]) تطلّ على الساحة. حجرة صغيرة وخلفها باب طرقه صاحبي بأدب جمّ ثم فتحه قبل أن يؤذن له، وجذبني إلى داخل المنظرة المفروشة بالسجاد الثمين الذي لم أشاهد مثله في حياتي. الستائر كانت مرفوعة، و"الطنافس" النحاسية والفضية تملأ الأرفف "الجصّية" عرض الحوائط.

كانت "الشريفة" متكئة على حافة النافذة في رأس المنظرة، وقد برز شعرها الأجعد من خلال ثنايا منديل برتقالي اللون، وتراءى جسدها الأبيض من خلال ثوبها الشفاف الحريري. كانت متكئة بإحدى يديها على النافذة وقد مدتها إلى الأمام، أما الأخرى فكانت على خدها، وهي سابحة بنظرها وفكرها نحو الساحة.

تأملت يدها. كانت مزيّنة بأساور من الذهب، ومزركشة بالحناء والخضاب الأسود المتعرج على أنامل كالشمع الأحمر الممزوج بلون اللبن الصافي.

استدارت كنمرة مسترخية الملمس، وقد أصلحت من ثوبها على ركبتيها وغطت ساقيها. كنت خلف صاحبي، صاحبي هذا الذي سيورّطني في مواقف حرجة أنا في غنى عنها. لمحتُ نظرتها نحوي مستفسرة بهاتين العينين الواسعتين المكحلتين بجاذبية متوهجة.

لكنها أشاحت نحو صاحبي، وبدأت تحادثه وكأن لا وجود لي!

احتفظت بمكاني خلف صاحبي بأدب وحياء فُرضا عليّ، ولم أحاول حتى مجرد التدخل في تنبيهه لكي نغادر هذا المكان المهيب. وبعد فترة قالت بصوتها الرخو العظيم:

-        من هذا؟

-        دويدار جديد يا مولاتي!

-        من أين جيء به؟

-        من القلعة.

-        هه... رهينة؟!

-        نعم.

وسادت فترة صمت. كنتُ في مكاني خلف صاحبي مطرقاً بنظري نحو الأرض، متأهباً للمغادرة في أي لحظة يسعد بها صاحبي.

اقتربت منا فجأة وقد امتشق قوامها كأنها شمعة ملونة تذيب كل نشوات اللذة الطاغية.

لمستْ بيدها رأسي، وقالت:

-        ما اسمك؟

لم أجبها. فأسعفني صاحبي بلباقة الدويدار. نظرتْ إليّ وكنت مشدوهاً بها. لم أجبها أيضاً، ولم تحاول تكرار ذلك.

وغادرنا المكان وكأن أحد جبال اليمن الكبرى قد انزاح عن صدري.

لم أنم تلك الليلة. تقلّبتُ من زاوية إلى أخرى، أصلحت مخدّتي تحت رأسي عدة مرات دون جدوى. قمتُ إلى النافذة، شبه النافذة، لأتأمل النجوم وبصيصاً من ضوئها، مع أصوات متفرقة وبعيدة لكلاب تنبح، ولكن دون جدوى.

صورتها ما زالت أمامي رغم كل ذلك، بصوتها الرخو المبحوح الذي يملأ مسامعي. تخيلتها بابتسامتها المتسائلة عني، عمن أكون! ابن من أنا؟ ما اسمي؟ ومن أي منطقة أتيت؟

تساؤل عادي وعابر، ضخّمه خيالي المراهق. ربما لا ولم تعرني أي اهتمام كما تخيّلت!

لم تشعر بي حقاً، ولا بوجودي داخل غرفتها مع صاحبي. هذا أكيد.

ما زال قدُّها الفارع يتماثل أمام مخيلتي وهي تتلوّى كأفعى سلسة الملمس، وربما كغانية من الحور العين.

لم أكترث تلك الليلة لفحيح زهراء مع صاحبي، وهمسها المثير الذي كاد في وقت مضى أن يصيبني بالجنون.

لا أدري كيف علِقت في كل حواسي وكياني ومشاعري، هذه "حفصة"! نعم، الشريفة حفصة!

 

* * *

استيقظتُ ذات صباح، كان صاحبي قد قام مبكراً، كعادته، يتجوّل بين أرجاء القصر وملحقاته. اتجهت إلى البوابة الرئيسية حيث يتجمع العساكر النظام والبرَّاني والبورزان، عادة. كان البورزان قد نزل من على درجات "نوبته" الحصينة كالعادة مكتمل الهندام كأنه في ريعان الشباب. وسألني أحدهم مستفسراً:

-        أين الحالي؟

استغربت لكلمة "الحالي" التي تكررت أكثر من مرة، كما أتذكر. لم أجب. بينما قال زميل له:

-        لقد اكتفى بصاحبه، الرهينة.

لم أحاول حتى مجرد إشعاره بالاهتمام، بينما اقترب مني آخر وقال:

-        من أين أنت؟

-        من الجبل.

-        اليمن كلها جبال!

لم أجب.

تقدم آخر، وآخر، وأصبحت حلقة. كنتُ أنظر نحو الساحة عسى أن يأتي صاحبي.

-        قبيلي([34])؟

لم أجب.

-        إبن شيخ طبعاً..!؟

لم أجب أيضاً.

قال أحدهم لزميل له:

-        اختيار غير موفق لدويدار يعمل في منزل مولانا النائب.

-        المفروض أن ينتقوا "الدوادرة" من المدارس أو من المدن.

قال آخر:

-        لا داعي لرهائن القلعة.

ونطق البورزان وقد مسح ساقيه بيديه بعد تناول الفطور المشترك:

-        لماذا اختاروك؟

-        لا أدري!

-        ألم ترفض؟

-        ولماذا؟

-        لأنك ستكون دويداراً!

-        قلتُ لنفسي: أهرب من سجن القلعة إلى المدينة.

نهض وقد نظر إليّ شزراً ثم قال:

-        لا يبدو عليك أنك تفهم عملك الجديد.

-        ما هو؟

-        ستعرفه قريباً..!

وأقبل أحد الخدم يبحث عني. أخذني معه بين قهقة العساكر المصحوبة بزاملهم المعهود (يا دويدار قد امك فاقدة لك... دمعها كالمطر!...).  وسرتُ خلفه، قال لي ونحن نرتقي أول درجات سلم القصر:

-        مولانا النائب يريد أن يراك.

لم أكترث، وإن كنت أتوقع شيئاً ما. اجتزنا عدة طوابق حتى وصلنا إلى منظرة النائب الفخمة، ذات النوافذ الواسعة والعقود الملونة التي تعلوها. كان متكئاً بكرشه المنفوخ وبعينيه الجاحظتين وشفتيه المتدليتين كأن ورماً خبيثاً أصابهما. وقد مد رجليه القصيرتين اللتين عكف عليهما صاحبي يدلكهما برفق ورتابة بأنامله، تخيلته محترفاً في صنعته.

كانت "المداعة المنيبر"([35]) تحدث صوتاً نتيجة لنفخ النائب لقصبتها الطويلة فيخرج من فمه دخانها في الهواء. كانت "جمنة" القهوة "القِشر" أمامه، يرشفها وسط صينية بيضاء.

سألني عن اسمي، وعن اسم والدي، ومن أي منطقة أكون.

تكرم صاحبي بالإجابة بأدب واتزان، وكفاني عناء ذلك الرد. ظللت واقفاً كما أنا. وصاحبي ما زال منهمكاً بتدليك قدمي النائب بأنامله.

كان بعض حديث يدور بينهما لم أستوعبه لانشغالي بالنظر بانبهار إلى التحف والطنافس التي تملأ المنظرة، منها سيوف مذهبة، وكتابات مزخرفة تغطي معظم أرفف المنظرة وجدرانها...

وفجأة سألني النائب مباشرة:

-        كم عمرك؟

-        لا أدري!

-        أوَلم يؤرخ لك في مصحفٍ أو كتاب؟

-        الفقهاء في بلادي يؤرخون لأولادهم فقط.

-        وأنتم؟

-        نؤرخ لمواسم الزراعة.

لا أدري هل أُعجب النائب بردي هذا أم أنه امتعض له! حيث تململ من مكانه ونهض، فنهض صاحبي وأخذ بذارعي ونزلنا معاً درجات القصر.

قلت له وقد أشرفنا على الساحة:

-        ماذا كان يريد النائب مني؟

-        مولانا كان يريد منك أن تباشر عملك.

ونظر إليّ والبسمة تعلو شفتيه، ثم استطرد قائلاً:

-        تباشر عملك عند... عند الشريفة حفصة!

تمالكت نفسي في عدم ظهور أي دهشة على ملامح وجهي، وقلت:

-        ولماذا عند الشريفة حفصة؟!

-        هكذا أرادت الشريفة، وأمر به مولانا النائب.

-        لكنه لم يأمرني بذلك مباشرة!

-        لقد قال لي ذلك، وهذا يكفي.

-        كيف؟!

-        اعتبره أمراً، ونفّذْه!

-        ولكن...

-        يا زميلي... إنك لا تعرف مكانتي في هذا القصر.

-        ربما.. وحتى الآن!

-        لا تتأثر بمظهر غرفتنا وفراشي!

-        سامحك الله!

-        اعتبرني الرجل الثاني في هذا المكان.

-        الرجل الثاني؟!

-        الغلام الأول، إذا أحببت.

أطرقت قليلاً. هزّني من منكبي، وقال:

-        لماذا أنت شارد الذهن؟

-        أفكر... لماذا هذا الاختيار؟

-        غيرك يتمنّاه.

-        أريد تعليلاً مقنعاً!

-        مزاج!

-        أي مزاج هذا، وهي لا تعرفني سوى للحظة عابرة!؟

-        ربما استلطفتْك!

-        كنتَ أنت أجدر مني بهذا الاستلطاف!

-        لقد سئمتْني... تريد وجهاً جديداً.

-        فقط؟!

-        ... وربما لتوزّع أعمالي على الجميع.

-        حتى العساكر.. والبورزان؟

جذبني نحوه بشدة وقد علا صوته الغضب، قائلاً:

-        ماذا تقصد؟

-        كانوا يسألون عنك.. عن "الدويدار الحالي"!

ترك منكبي وأطرق لحظة إلى الأرض، ثم قال باسماً:

-        ماذا قالوا؟

-        لا شيء... سوى أنني كنت غير محبّب لديهم.

-        لا يهمونني في شيء، فهم مجرد "عوانس" كعوانس القصر وملحقاته.

-        أتعني ذلك؟

-        ألم تلاحظ ذلك على أشكالهم وطباعهم وحديثهم وتصرفاتهم؟!

 

* * *

جذبني نحو دار الشريفة حفصة. قلت له:

-        ليس من الآن.

-        لماذا؟

-        لم تستدعني، أولاً... وثانياً أريد أن أتحدث إليك حول عملي هذا.

-        دويدار.

-        لم أفهم!

-        دويدار.. وهذا يكفي!

-        يعني.. خادم!

-        أرقى نوعاً ما.

-        لم أفهم!

-        ستفهم مستقبلاً!

-        قال لي هذا الكلام.. البورزان.

-        دعك منه.. فهو عانس أيضاً.

ساد صمت لفترة وجيزة، قلت له بعد ذلك:

-        لماذا يطلقون عليك لقب "الحالي"؟!

ابتسم ثم قال:

-        من الحلاوة!

-        لا تمزح! فأنا جاد في سؤالي.

-        ستعرف ذلك مستقبلاً!

-        قال ذلك البورزان قبلك!

-        إسأله عن البقية إذاً!

شعرتُ أنه قد بدأ يغضب، فلم أكرر. وبعد فترة قال لي وهو يرسم شبه ابتسامة على شفتيه:

-        ألا تريدني أن أوصلك إلى دار الشريفة حفصة؟

-        ولماذا هذه العجلة، وهذا الضجر؟

-        لكي أخلص من هذه المهمة.

-        أهي بالنسبة لك تكليف؟!

-        نعم تكليف.

وأطرقت قليلاً ثم سألته بتودد:

-        وهل سأبقى معك في الغرفة نفسها؟

-        لا أدري.. هذا شيء متروك لها.

-        أريد أن أعرف، فهذا شيء مهم بالنسبة لي.

-        سوف تقرر هي ذلك، ففي دارها ما هو أجمل وأهدأ من غرفتي، وهي صاحبة القرار.

-        حتى لو راجعتها أنت، وترجيتها في أن نظل معاً؟

-        ولماذا هذا الإلحاح؟

-        مجرد رغبة مني... اعتبره كـ"رَأَم" البغل على بغلٍ أو حيوان آخر؛ إلا إذا كنتُ قد ضايقتك في خلوتك!

-        سنسأل البورزان عن هذا غداً!

شعرت أنه متألم مني، فقلت:

-        يبدو أن حكاية البورزان قد علقت في ذهنك!

-        لا، أبداً!

-        ولماذا التركيز؟

-        مجرد "مجابرة"([36]) عابرة ابتدأتها أنت.

 

* * *

وضعتُ يدي تحت رأسي مستلقياً في غرفة صاحبي، وقد تكالبتْ عليَّ أحاسيس ومشاعر لم أكن أتوقع حتى مجرد التفكير بها من قبل.

ولمحتُ لأول مرة ضوء عود ثقاب يُشعل فيغمر الغرفة بضوئه. إنه صاحبي يشعل سيجارة رديئة. جلستُ ثم زحفتُ نحو النافذة الصغيرة عسى أن أرى أي شيء يومض من فوق جبلي الشامخ البعيد.

كان الظلام دامساً، لا بصيص من نور سوى أضواء النجوم البعيدة. قال صاحبي مبدداً وحشة الصمت:

-        أتريد نَفَساً؟

لم أفهم مراده فقال:

-        سيجارة تزيل سهادك وتخفّف من أرقك.

كنتُ أعرف في القلعة أن السيجارة محرّمة وأن من يشربها يُعدّ كافراً وملحداً، ومع ذلك كنت قد سحبت بعض أنفاس منها مع بعض زملائي الرهائن بسرّية تامة وفي أماكن لا تخطر على بال معلمنا الفقيه أو الحرس، في الحمامات الحجرية الكريهة مثلاً. كنتُ أشعر بالدوار إثر ذلك وقد أُصاب بالإغماء.

لا مانع الليلة... لا بدّ من دوار وغيبوبة أنا في حاجة لها لكي أنسى. وتناولت من يد صاحبي بقية لفافة ورشفتها حتى كدت أحرق أناملي.

وسبحت مع الدوار والإغماء. ولم أذكر في الصباح إلا أن صاحبي لم يعد بجانبي؛ أخذته امرأتان غير زهراء، جلستا معه في درجات القصر تقبلانه وتعتصران منه أشياء أخرى.

وأتذكر أنه عاد وأغلق الباب وراءه بعنف ثم نام بعمق لم أعهده فيه من قبل. لكنني أيقنت أن تلك اللفافة لم تكن من نوع ما ذقته في القلعة، هي نوع آخر.

كم هو صعب الاستيقاظ مبكراً في هذه المدينة! وعلى العكس من ذلك، الطراوة والنشاط في قلعة الرهائن المرتفعة، بالنسبة لي. في المدينة يصحو النائم وكأنه مضروب ضرباً مبرحاً، متورّماً كأنه طبل أو جذع نخلة خاوية، مسبل العينين، يداعبه القيء والغثيان والكآبة منذ الصباح، ومن النادر أن يرغب في تناول فطوره أو قهوته، فهو لا يرغب في تناول أي شيء سوى الماء البارد وهو نادر وإن وُجد ففي أواني العسكر المبخرة.

ومع ذلك فصاحبي يقوم مبكراً كعادته رغم سعاله الشديد المبحوح طوال الليل. وشحوب وجهه مع ضعف في بدنه يتدرج في الفترة الأخيرة، ويميل لون جسمه إلى الصفرة المقيتة التي توحي بقرب الأجل الحتمي.

اتجهت كالعادة، وبحذر، إلى مقر العساكر المعتاد في البوابة الرئيسية، وهجعت في ركن، بعيداً نوعاً ما عن سماع سماجاتهم وزاملهم الساخر. وأقبل صاحبي قبل أن يكتشف وجودي هنالك، واستقبله العسكر بلطف زائد عن حدّه كما خُيّل إليّ، لكنهم أضافوا إلى لطفهم نشيدهم بذلك الزامل المعاد والمكرر.

أما البورزان فقد غضب عليه صاحبي أشد الغضب. بان ذلك بشكل واضح وصارخ مما أدى إلى توسط الآخرين من العسكر.

وابتسمت. ولم يعر صاحبي ابتسامتي أي انتباه، بل جذبني نحو دار الشريفة حفصة.

قلت له:

-        لماذا هذه العجلة؟

-        لكي أنهي مهمتي.

-        وبعد ذلك؟

-        كلٌّ في حال سبيله.

-        هل ضقت بي ذرعاً؟

-        لا.

-        أرجو أن تكون صادقاً!

-        ... أنا صادق، أيخامرك شكّ في ذلك؟

-        ولكن لِمَ هذا التسرّع الملهوف!؟

-        لكي أنهي مهمتي المكلّف بها.

-        تريد التخلّص مني؟ حسناً! كأنك تسوقني إلى مسلخ.

-        ... لا تكن ظالماً لي ولها، ففي رحابها يستظلّ الخير.

تسلّقتُ من ورائه درجات الدار، كالمرة الأولى، ولكن هذه المرة كان شعوري يختلف تماماً، أحسست برهبة وإجفال كأنني عصفور نادر يدخلونه إلى قفصه الذهبي ويراد منه البقاء مدى الحياة.

فتح صاحبي الباب كالعادة، كانت الشريفة مطلّة على الساحة كعادتها أيضاً في مثل هذا الوقت. إلتفتتْ إلينا بنظرة مهيبة ثم نهضت واتجهت نحونا. ابتسمتْ لصاحبي دون أن تعيرني أي اهتمام، وأخذتْ بيده وأنا أتبعهما بنظري إلى الحجرة الصغيرة، بينما كنتُ واقفاً أتطلع إلى لا شيء. مرّت دقائق كأنها الدهر، امتلكتني أثناءها موجة عارمة من كبرياء صلفة فقدتها منذ أُمرت بالنزول من قلعة الرهائن إلى المدينة.

دخلتْ وعبرت من أمامي. لم تنظر إليّ. واتجهتْ إلى زاويتها المفضّلة المطلّة على الساحة، ثم اتكأت وسألتني:

-        ما اسمك؟

فقلت:

-        عرفتِ ذلك البارحة.

نظرتْ إليّ بحدّة غاضبة، ثم قالت:

-        كم عمرك؟

-        لا أعرف.

-        ألم يؤرّخ لك أبوك في كتاب أو مصحف يوم ولدت؟

-        لا.

-        عجيب!

لم أرد أن أقول لها إن الفقهاء وبعض الأعيان في منطقتي هم الذين يؤرخون لمواليدهم في الكتب والمصاحف القديمة الرثّة، وإن أسرتي كغيرها من الأسر الزراعية لا تهتمّ إلا بتأريخ مواسم الزراعة.

وبدا لي كأن السؤال عن العمر وتاريخ المولد شيء مهمّ في حياة أعيان هذا القصر وملحقاته. ذكّرني هذا بكلام أستاذنا الفقيه في القلعة عن "الطواشي" والدويدار، والعلم وسن البلوغ!

ومرّت فترة وجيزة خيّم عليها الصمت. قامت بعدها بقوامها الصارخ، فأسبلتُ نظري حيث ما زلت واقفاً في مكاني كما كنت، وقالت بتودد:

-        تعال معي!

وتحرك جسمي بعدها، وهي تقول:

-        سأعرّفك على الدار.

-        أعرفها.

-        من عرّفكَ عليها؟

-        صاحبي.

-        الدويدار المسلول!؟

-        الدويدار الحالي.

-        إنه لا يعرف ما أريدك أن تعرفه، وتفهمه وتتبعه وتلتزم به حرفياً.

لم أجب وقد صدمتني "جلافتها" بدمغ صاحبي بمرض السل.

قالت وقد نظرت إليّ بتروّ لأول مرة:

-        ما أدراه، هذا صاحبك بما أريده منك؟!

ولم أجب، فأخذتْ بذارعي لأول مرة وجذبتني نحو درجات الدار، كأن شحنة كهربائية مسّت يدي، من الطبقات السفلى للدار حتى أعلاها حيث السطح والمطبخ مع مخزنه الخاص بلوازمه.

وظلّت يدي في قبضتها والعَرَق ينزف بغزارة من وجهي. حتى يدي أصبحت مشلولة في كفّها. وبقيتْ يدها المطوّقة بأسوار من الذهب ونقوش الزينة، ممسكة بيدي.

طفنا كل شبرٍ في الدار. كانت فرِحة، تعلوها البهجة، حتى وهي تقابل العجائز في الأسرة وبعضاً من خدمها وحشمها، في الدرجات أو الأماكن التي طوّفتني بها.


 

([1]) عُكْفَة:حرس الإمام الخاص.
([2]) عَلاّن: نجم زراعي يأتي قبل حصاد الغلال وهو أحب نجوم الزراعة في اليمن.
([3]) الدويدار: صبي حاضر البديهة يستخدمه الأمراء والحكام في قصورهم، وجمعها "دوادرة".
([4]) الحالي: الجميل.
([5]) النائب: الوالي- نائب الإمام.
([6]) العامل: مدير الناحية.
([7]) الرهائن: أبناء المشايخ ورؤساء القبائل الذين يعتقلهم الإمام لضمان ولاء آبائهم.
([8]) الطَّواشي: الخادم الخصي، العبد الخصي.
([9]) سِنَّا: لقب مدرس الكتَّاب - مختصرة من كلمة سيدنا.
([10]) القَمَرِيّات: نوافذ رخامية.
([11]) السَفِِلْ: أسفل المنزل، وهو في الأرياف مخصص للحيوانات.
([12]) العجور: سيقان الذرة (علف البهائم).
([13]) يُطلق لقب "الشريفة" على بنات الأسر التي تدّعي نسبها إلى الرسول الكريم (ص).
([14]) بلاد مدخل: كانت تُطلق هذه التسمية على البلدان الخارجية وقتئذ.
([15]) أسماء فنانين يمنيين راحلين.
([16]) لمبة الألف: مصباح غازي.
([17]) حملة لحج: حملة عسكرية يمنية بقيادة تركية ضد الإنجليز في منطقة لحج اليمنية التي كانوا يحتلونها.
([18]) السواري: سلاح الفرسان.
([19]) جَمَنة: إناء فخاري تغلى فيه القهوة اليمنية من قشر البن.
([20]) جفنة: وعاء من الفخار.
([21]) دكة: مصطبة.
([22]) نظام: جنود الجيش النظامي.
([23]) برَّاني: ما يشبه جنود الاحتياط.
([24]) كاوش: العنبر المخصص لإقامة الجند.
([25])  البورزان: ضارب النفير.
([26]) الزامل: نشيد جماعي تقليدي.
([27]) فاقدة: مشتاقة
([28]) الطبشية: جنود المدفعية. 
([29]) النوبة: غرفة مرتفعة للحراسة.
([30]) الجنبية: الخنجر اليمني التقليدي. 
([31]) الطيار: حافظة جلدية لرصاص البندقية تُربط من الكتف إلى الخصر.
([32]) صاغ سليم: ذخيرة جديدة لم تُعبأ مرة ثانية.
([33]) المنظرة: غرفة في أعلى البيت.
([34]) قبيلي: تُطلق على الفلاح نسبة إلى القبيلة.
([35]) المداعة المنيبر: النرجيلة الممتازة.
([36]) مجابرة: محادثة.