زيد مطيع دماج في "الانبهار والدهشة":
وعي لاحق يكتب بذاكرة طفل


محمد الشيباني 
 

سلسلة المقالات التي كتبها القاص والروائي زيد مطيع دماج (أوائل التسعينات) في احدى الصحف المحلية عن فترة الخمسينات التي عاشها طفلا في مدينة تعز اضافة الى العامين اللذين قضاهما في مصر كطالب بين 58 و 60 صدرت في كتاب في منجز زيد الكتابي قياسا الى كتبه التي صدرت على مدى ربع قرن.

عفوية الكتاب جاءت من تفاعل المؤلف مع ما علق بذاكرة الطفل الريفي عن تعز كمكان (معالم وناس) دون استعلاءات وعيه اللاحق.

فالزمن بتجاوزاته الخطية والعمر بتراكمات خبرته لم يقف كمعيق أمام استرجاعات الطفل للدهشة الأولى بطراوتها وبالتالي لم يوجها الكاتب أن يكتب عن مخزون الذاكرة من مواقع استعلاءات المعرفي فيه.

فالكتاب أولا لم يعن بتحديد موقعه الإجناسي الذي يسهل للقارىء مسلك التعاطي القرائي معه من زاوية محددة. فهو خليط من السيرة - حين يلعب ضمير المتكلم الدور الرئيسي في تشخيص والاشارة الى الوقائع التي تعني الراوي ذاته، والمفصح أيضا عن موقعه الأصلي داخل نسج الوحدات الحكائية المتعاقبة - ومن الرصد الخارجي عن المكان بمعالمه التي لا تصح مثبتاتها إلا بمقدار تشكلها "الرسمي" بوعي الطفل كما سنحاول تبينه لاحقا.

والكتاب ثانيا يقف على مرصودات المكان كمعالم لا ترى الا من خلال ارتسامها بداخل الطفل كوعي وذاكرة في آن دون الالتفات الى تدو ينات المؤرخين عنها وهو ما أعطى الكتاب اتساقا من نوع ما بين عنوانه ومحتواه.

فسور المدينة الذي يفتتح به الجزء الأول من الكتاب أو "كتاب تعز" حسب التبويب الداخلي ارتسم بذهن الطفل بأنه مشيد بالحجارة من الداخل والمخارج يحيط بالمدينة من كل الجوانب ببابيه (الباب الكبير) و(باب موسى) غير ما يحال اثباته الأستاذ: محمد بن محمد المجاهد في كتابه "مدينة تعز غصن نظير في دوحة التأرين العربي"(2).

حين يقول: استنادا على كتاب القاضي عبد الصمد بن اسماعيل الموزعي المعنون بدخول العثمانيين الأول الى اليمن - كان بناؤه باللبن والزابور (وطعم) من ظاهره وباطنه بالحجارة وله بابان رئيسيان هما الباب الكبير وباب المدجر.

أيضا وعي الطفل لا يكترث بمعرفة أسماء الأشخاص الذين ارتبطت بهم بعض المعالم وليس معنيا بها فيكتفي على سبيل المثال بإحالة بناة الشواهد القائمة بالمدينة الى الأسماء التي عرفت بها هذه الأماكن بالتداول فقط فبائ مدرسة وجامع الا شرفية هو عند الأستاذ زيد الملك أشرف وليس الأشرف اسماعيل ابن العباس أما مشيد جامع المظفر فهو المظفر وليس الملك "يوسف بن عمر بن علي رسول" الملقب بالمظفر.

ايراد المقارنة هنا ليمي إلا لتبيان استتار الكتابة كلحظة خلق، خلق وعي الفنان الذي لا يرتكن (على) مدونات التاريخ بقدر ما يسترمثد باحساسه ورؤاه الداخلية للأشياء بعين العارف والعاشق في آن.

ويكون أكثر طمأنينة اذا استرشد بفنان آخر- تواشج الصلة به أكثر من كتب التاريخ ذاتها - حتى يكتب عن بعض التفاصيل.

فما يعتقده الأستاذ زيد بمدرسة "المعتبية" أحد أجمل العباي الأثرية بمدينة تعز - أنها بنيت من قبل جارية كانت زوجة لأحد الملوك اسمها "المعتب" ومنع عليها زوجها الملك بناء مئذنة واكتفت بتتويج المبنى بقبتين فقط على شكل نهدين !!

فلأنها - حسب رواية الشاعر "محمد أنعم غالب" التي يعهدها الأستاذ زيد عليه - كانت ذات حكمة ودهاء، حيث رمزت بأهم مناطق جسم المرأة جاذبية للملوك !!- بشكل أو بآخر مع ما يرد في كتاب محمد بن محمد المجاهد أيضا.

(هي صورة أخرى للمدرسة الا شرفية بنيت - تقريبا بنفس الكيفية إلا أنها أصغر في منطقة الواسطة - كما جاء في وقنيتها - ابتنتها الجهة الكريمة جهة الطواشي "جمال الدين معقب بن عبدالله الأشرف" وهي زوج السطان الأشرف ورغم بساطتها وقلة العناية بها صمدت وظلت وادعة "بقبابها" الصغيرة).

-2-

كتاب الانبهار والدهشة يرسم في قسمه الأول لوحة بديعة لتفاصيل المكان لم يزل دفء أكثر ينسرب الى أجساد عشاق هذه المدينة التي وقفت ذات وقت حائلة بين زيد والموت الذي حصد كل أخوانه وطوعت لاحقا جغرافيتها وناسها لعمله الرائع "الرهينة".

فلم تزل المعتبية والأشرفية والمظفر وأبوابها - الكبير والفاجر وموسى - وقبة الحسينية وضريح الشيخ العارف عبدالهادي السوري وسوق المدينة الممتد بين بابيها، وقصور المدينة القديمة والعرضي وصالة، وطرية القلعة وبقايا السور محطات العاشق، ولم يزل عبق ناسها يتغلغل في ثنايا المكان فيمكن تحديد أماكن معاوية المجنون الداعي على جبل الحكمة، ومقهى الدراولة نجوم وقتهم، وخط "العنترناش" والبقعة التي كانت تحتلها بائعة البطاطا الجميلة وكذا موقع أول ستوديو تصوير أفتتحه خارج سور المدينة أحمد عمر العبسي والد الشخصية الوطنية المعروفة المرحوم سلطان أحمد عمر. أما في قسمه الثاني المسمى كتاب القاهرة فسجل جزءا من تفاصيل الدهشة والانبهار بتضاعينهما على مدركات الطفل الذي لم يفق بعد من دهشة المدينة "تعز".

الدهشة المضاعفة ابتدأت مع الطير الحديدي الذي يطير وفى بطنه المسافرون والأمتعة، هذا الطير الذي جعل أحد المشايخ يقوم بقيد وحبس أحد العائدين من وراه البحار لأنه قال للشيخ أنه وصل بواسطة الطائرة التي تطير في السماء فظن أن هذا "الرعوي" يسخر منه.

- مطار أسمرا بصالة (الترانزيت) الفخمة بأثاثها وأنوارها وصوت الموسيقى الصادح في جنباتها - كان الوصول الى القاهرة حسب ما يرد في الكتاب يتم عبر مطار أسمرا حيث كانت تسير رحلة واحدة أسبوعيا الى تعز على أحدى طائرات (الديكوتا) العتيقة قبل أن تقوم طائرة أخرى من نوع (دي سكس) بنقلهم الى مطار الماظة بالقاهرة.

- الفندق الذي مضوا فيه لم هو وزميل آخر لم يرد ذكر اسمه في الكتاب / أيامهم الأولى في القاهرة بـ(سيفون) حمامه حين ظنوا أنه أغرق غرفتهم لمجرد سماعهم طرطشة الماء بقوة فخرجوا مسرعين على غرار أحدى الطرف المتداولة.

- سينما "كليبر" وجنة الفواكه.

- القطار بعرباته امحيرة والذي لم يكن قد شاهده الا في رسوم كتاب القراءة الرشيدة.

- البحر والنيل الذي كان يظنه أكبر قليلا من (بركة) قويته وسائلة "نخلات".

-3-

الكتاب بالاضافة الي كونه (يؤرخ) الجزء من سيرة الطفل المتوا شجة بجغرافيات الأمكنة هو أيضا اشارة واضحة الى تفتقات الوعي الجديد للفتي بفعل صدمات الانبهار والدهشة.. تفتقات تبدأ بالأسئلة العديدة التي تخلق جراء انشغال الذهن بمقارنات واقع الحال بمنجز الآخر الجديد، وتنتهي بالوقف ذاته المفتدي من طروحات عقد التحولات بين 56 ،66 التي شهدها عصر عبد الناصر بعد سويس 56، الموقف الذي سيتجلى لاحقا وكتابات زيد كلها والتي اتخذت من أرضية الوعي هذه عادتها التأليفية والتي اتكأت على تسارعات النقيضين (القديم والجديد) وانتصاره للجديد الذي تم في جانبه الكبير داخل وعي ككاتب.

 


1- شركة رياض الريس – بيروت – طبعة (1) 92.2000 صفحة قطع متوسط 2 تعز/ طبعة خاصة 1997 – 308 صفحات قطع كبير.

 

source: http://www.nizwa.com